آخر الأحداث والمستجدات 

مكناس..مدينة منسية

مكناس..مدينة منسية

كلما زرتُ مكناس تهجم عليّ الذكريات. أراني جالسا في مدرجات كلية العلوم بحي الزيتون والعالم بالأسود والأبيض والمدينة خضراء. في جامعة «مولاي اسماعيل» تفتـَّح وعيـُنا السياسي وطرحنا عشرات الأسئلة الوجودية وتفاعلنا مع ما يجري في البلاد وفي العالم، تحت أعين دولة بوليسية تحتضر، أو هكذا اعتقدنا قبل أن نكتشف أنها بسبعة أرواح، وكل ما في الأمر أنها تغير جلدها ببراعة الأفعى. مكناس مسقط العقل والوعي والقلب والروح. في بداية التسعينيات، كنا طلابا حالمين، نقضي وقتنا بين الشعارات والحلقيات ودراسة الأحجار والنباتات والكيمياء النووية والعضوية والمعدنية، رغم أن المادة التي كانت تحظى باهتمامنا أكثر هي «كيمياء الحرية».

الوجوه اختفت، جرفتها ثقوب التاريخ السوداء، لكن الأمكنة مازالت هي هي. المدينة العتيقة بأسواقها وروائحها ودروبها الضيقة، لهديم والروامزين والبساتين وأكدال وبني امحمد والملاّحيْن، وحمرية ببناياتها الكولونيالية البديعة، والأحياء التي يتوسع فيها العمران على أطراف مدينة مازال سورها صامدا منذ قرون، مع أبوابه الكثيرة: باب منصور، باب بردعيين، باب تيزيمي، باب الجديد، باب كبيش،… ثم صهريج الصواني وقصر مولاي اسماعيل وسجن قارا… في كل شبر من مكناس معلمة تاريخية، والفضل يعود إلى أشهـَر سلطان في تاريخ المغرب الأقصى بدون منازع، الملك الجبار مولاي اسماعيل، الذي عاصر لويس الرابع عشر، وخلف جيشا من الأبناء، وحكم البلاد بقبضة حديدية لعقود طويلة، إلى درجة أن المغاربة لم يصدقوا موته وظلوا يرددون: «بموت الملك الجبار، يعرف الواحد القهار!».

الأماكن لم تتغير. سينما كاميرا مازالت تطل على النافورة والمعهد الموسيقي ومقهى «لاتوليب»، حيث كان يجتمع الاتحاديون أيامَ كانت السياسة سياسة، والأحزاب مدارس حقيقية يتخرج منها آلاف الشباب. مكناس مدينة تتبدل ببطء شديد، بالمقارنة مع شقيقاتها مراكش وفاس والرباط، رغم أنها تملك من المؤهلات الاقتصادية والسياحية ما لا يوجد في المدن الأخرى. شيء ما يجعل الإقليم «مغضوبا عليه» في المركز، أو لا يحظى بما يستحقه من اهتمام في أقل تقدير. ولعل التقسيم الجهوي الجديد، الذي يجعل المدينة تابعة لفاس، أكبر دليل على الظلم الذي تتعرض له المدينة. لو كان لمكناس من يدافع عنها في مراكز القرار، مثل الحسيمة والرحامنة، لما ارتكبت في حقها هاته «الجريمة» الإدارية!

على مرمى خطوات تتحصن مدينة زرهون، مهد الدولة المغربية في صيغتها العربية الإسلامية، وبالجوار مدينة وليلي، أحد أهم الآثار الرومانية في المغرب. لو وجدت مكناس أبناء بررة لصنعوا المعجزات من هذا التراث الإنساني الاستثنائي، لكن معظم المكناسيين الذين وصلوا إلى الوزارات والإدارات ومراكز القرار انشغلوا عن مدينتهم بأشياء أهم، من قبيل تدبير مصالحهم الشخصية وتسمين ثرواتهم. عندما نرى كيف تحولت مدينة صغيرة بمؤهلات بسيطة، مثل أصيلة، إلى مدينة بسمعة عالمية، لا يسعنا إلا أن نتحسر على مصير العاصمة الإسماعيلية. لو كان هناك محمد بنعيسى واحد في مكناس، لكان مصير المدينة غير مصيرها اليوم!

ومن حق المكناسيين أن يسألوا عن حصة مدينتهم من التظاهرات الضخمة التي تصرف عليها الدولة ملايين الدراهم. ما عدا «معرض الفلاحة» و»المهرجان الوطني للمسرح»، لا توجد في المدينة مواعيد كبرى يمكن أن تشكل قاطرة للإشعاع والسياحة والتنمية. موسيقى عيساوة لا تقل عراقة وغنى وفرادة عن إيقاعات كناوة، لكن الصويرة أصبحت عاصمة عالمية بفضل مهرجانها السنوي وفاس تحولت إلى عاصمة عالمية للموسيقى الروحية، وحدها مكناس لم تجد من يُعطي لموسيقى عيساوة ما تستحقه من إشعاع دولي. حتى المهرجان الوطني للمسرح، الذي تحتضنه المدينة منذ أكثر من ستة عشر عاما، يجري التخطيط لنقله إلى مدينة أخرى، وستكون تلك جريمة أخرى في حق مدينة حسن المنيعي ومحمد تيمود و»رواد الخشبة» وفي حق المهرجان، لأنه سيموت إذا اقتلع من تربته. لكن، يبدو أن رئيس الجماعة غير مهتم ببقاء المهرجان في المدينة ووزارة الثقافة تخطط جديا لنقله إلى تطوان!

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : جمال بدومة
المصدر : البلاد التي
التاريخ : 2015-06-07 17:38:35

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك