آخر الأحداث والمستجدات
في الحاجة إلى فهم الحركة القاعدية المغربية
لقد بات من البديهي القول أن الشعوب و الأوطان التي تريد تصحيح مسار مستقبلها هي من تأخذ العبرة من الماضي و عدم التعتيم على كثير من جزئياته. و لمحاولة فهم هذا الماضي، ركبنا مغامرة جديدة اسمها محاولة لفهم الحركة القاعدية الطلابية و التعرف على بعض مساراتها، للتقرب منها و من موروثها المعرفي و الفكري الذي قد يساعدنا على فهم جذورها في ارتباط مع دينامية المجتمع الذي أنتجها و رسم معالم طريقها حتى أصبحت ظاهرة اجتماعية يجب فهمها و التعامل معها بموضوعية انطلاقا من معنى سام، يتيح لنا الرغبة في نبل و سمو غد مشرق بالأنوار، بعيدا عن التحقير و الضغينة. و مثل هذا الموقف، كنت أنتظر تصريفه منذ سنوات من طرف ثلة من الأساتذة الذين كانوا أعلنوا مع مطلع التسعينات عن مشروع ثقافي تحت عنوان " اختلاف"، و هي مجلة ثقافية شهرية، كان يديرها سعيد مونيت و يرأس تحريرها محمد الهلالي إلى جانب فريد بوجيدة و محمد شكري سلام و أيوب المرابط.
و برجوعنا إلى بعض أعدادها (العدد 6 / 7- 1993)، نعثر على عدد متكامل حول الحركة الطلابية يحمل في طياته مواضيع مختلفة، متعددة و مثيرة حول تجربة الحركة القاعدية المغربية، كما تناولت المجلة في كثير من أعدادها مواضيع متميزة قاربت إشكالات سياسية و اجتماعية و ثقافية بنجاح كبير. و كم تمنيت استمرارية هذا المشروع الثقافي و تطويره في اتجاه خلق تراكم معرفي حول حركة القاعديين بالجامعة المغربية، نظرا لكون هذه الثلة المشرفة عن المجلة والمساهمين فيها، كانت جزء من هذه التجربة أو قريبة منها. لكن لم يكتب لهذه التجربة الاستمرارية، ولم يكتب نضج محاور الالتقاء و محاور الاختلاف بين جذور نشأة القاعديين و مسارات التطور.
و باستحضارنا لتجربة مجلة اختلاف الذي علق عليها العديد من المنتمين لفصيل القاعديين أمالا كبيرة، نستحضر العمل العلمي و الأكاديمي الوحيد (حسب علمنا) حول الاتحاد الوطني لطلبة المغرب و فصائله المناضلة في الداخل و الخارج، لصاحبه عبد اللطيف المانوني ، المناضل التقدمي و الحقوقي، صاحب كتاب "العمل النقابي العمالي بالمغرب"، و الذي عين رئيسا للجنة الخاصة بمراجعة الدستور، و اليوم يشغل منصب مستشار الملك محمد السادس منذ 2011.
و حتى نبرز أن الإتحاد الوطني لطلبة المغربي لم يكن في يوم ما يتيم، و أن فصائله التاريخية لم تأت من عدم، بل تعتبر إفرازا موضوعيا لدينامية المجتمع المغربي السياسية و النقابية و الثقافية، و حتى نذكر بطموح بعض الباحثين المغاربة الذين أرادوا تحويل الجامعة بشكل عام إلى موضوع نظري و محاولة التفكير فيه ك"محاولة لتأسيس إطار نظري يسمح للكل أن يتخلص من سلطة الزبناء و من هاجس تجميعهم و لو على حساب الفكر و من تم التخلص من أشكال التناول الموسمية الخاضعة لضرورات أيديولوجية أكثر منها علمية". ("أصوات الباطن اتجاه ما وقع في الظاهر" لنور الدين الزاهي: مجلة اختلاف، ع. 6/7- 1993)؛ و جدنا اليوم أنفسنا مضطرين لركوب هذه المغامرة/ مغامرة النبش في جذور الحركة القاعدية كواحدة من الحركات النقابية التابعة لنقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، و حتى نستخلص الدروس و العبر من هذا الماضي الذي لا زال في حاجة إلى مساحات ضوء تقرض فيه أسنان مساحات كبيرة من أرض الثقافة التنويرية.
لقد تخوفنا مرارا من الحديث في الموضوع، نظرا لغياب المعدات اللازمة للقيام ببحث علمي مبني بمفاهيم و مناهج و نظريات متعارف عليها، و بسبب عدم قدرتنا على التخلص من تأثيرات القصص و الروايات التي كان يتم الترويج لها في بعض الأماكن العمومية الذي يختلط فيها الحابل بالنابل، بعيدا عن أي قراءة موضوعية رصينة و متأنية. بل ربما كنا نخاف من انتقادات من كانوا قد أوهمونا في مرحلة ما أنهم يمتلكون الحقيقة، و انتظرناهم أزيد من 30 سنة و لم يتكلموا و لو مرة واحدة! فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر.
و اليوم، نعلم فعلا أن النبش في جذور الحركة القاعدية ليس بالأمر الهين، و لربما يمتنع العديد من الباحثين في العلوم الإنسانية و العلوم الاجتماعية عن البحث و التأمل و التخمين في هذه الظاهرة الإنسانية و الاجتماعية لهذه الأسباب أو لتلك خوفا من النقد و التصنيفات المجحفة.
في 1990، و كنت ساعتها لا زلت أقبع خلف القضبان بسجن عين قادوس بفاس، و مباشرة بعد حكم القاضي عبد النور السيئ الذكر، و بعد نقاش عميق مع رفيقي عبو سعيد و رفاق آخرين، أصدرنا بيانا للرأي العام الطلابي و الوطني أعلنا فيه فك ارتباطنا التنظيمي بفصيل الطلبة القاعديين بجامعة ظهر المهراز و بالحركة القاعدية عموما، احتراما للأعراف و التقاليد التي تعتبر القاعديين حركة جامعية، مستقلة، تنتج مواقفها انطلاقا من همومها اليومية و تتفاعل مع كل القضايا الجماهرية، و تؤمن بمبادئ و قيم الحركة التقدمية.
و خلال 1993، و قبل مغادرتي السجن راودتني فكرة الدفاع عن الحركة القاعدية، فتحمست للفكرة من منطلق تجربتي داخل الحركة الطلابية بشكل عام و داخل الطلبة القاعديين التقدميين بشكل خاص، فاقترحت نقد العديد من محاور هذه التجربة على صديقي و رفيقي عبو سعيد للنقاش، و بعد أسابيع من الأخذ و الرد اقتنع بالفكرة فإشتغلنا جنبا إلى جنب ليكون مقال "دفاعا عن القاعديين" باكورة هذا النقاش الذي نشر بالعدد 6/7 في مجلة اختلاف بأسماء مستعارة: سعيد اليزناسني (عبو سعيد) و أشرف بلمكي (المريزق المصطفى).
طبعا، ووجه المقال بنقد لاذع داخل الساحة الجامعية بكل من تطوان و وجدة و الرباط و فاس، ووزعت على إثره وثيقة أبريل 94، تحت عنوان "متى سمحت الرقابة بالدفاع عن القاعديين، حول مقالة: رفاق عبد الوهاب و أم كلثوم".
فرغم العديد من المحاولات التي واكبت ظهور الحركة القاعدية و التغيرات الاجتماعية و السياسية التي عاشتها منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، و التي تمخضت عنها العديد من التساؤلات و الانتقادات، فإنها لم ترق بعد إلى قراءة نقدية و علمية للوثائق السياسية-النقابية التي راكمتها خلال مساراتها.
إنه من الصعب جدا على أي كان فهم كينونة هذا الفصيل بواسطة ما يقال و يشاع و يذاع. و ليعلم الجميع أن لهذا الفصيل رصيدا محترما يخفي مواقف من نوع نادر، و هذا النوع هو الذي نعثر عليه في المسار النضالي العام للطلبة اليساريين المغاربة (الطلبة القاعديين) منذ أرضية القاعديون التقدميون أو ما يسمى ب"أرضية ست لقاءات"، مرورا بأرضية "المبادرة الجماهيرية" (للطلبة التقدميون المغاربة) و هي أرضية من أربعة فصول تم تعميمها في يوليوز-غشت 1981، ثم وجهة نظر 1982 ل"مجموعة بنيس" و صولا إلى وجهة نظر "الكراس" أنصار جريدة النهج الديمقراطي"، و أخيرا "طلبة البرنامج المرحلي" (أنصار نشرة الشرارة الطلابية - افتتاحية عدد هذه النشرة في 3 مارس1991-).
كما يستحيل على من لا يستطيع ربط سيرورة الحركة القاعدية (بكل توجهاتها) بسيرورة و تطور أزمة الحركات التقدمية و معظم المذاهب الفلسفية و العلمية و الإيديولوجية، أن يفهم ماهية هذه الحركة. لقد تقدم اليسار المغربي في العديد من المناسبات بقراءة نقدية أو دفاعية لبرامجه و توجهاته و تجاربه، إلا أنه و لفترات طويلة شجع الاعتقاد في عدم جدوى الحديث عن الحركة القاعدية/الطلبة القاعديين، إلى أن وقع الزلزال بانهيار المنظومة الاشتراكية و بداية غزو الجامعة في بداية التسعينات من القرن الماضي، من طرف قوى ظلامية، نظامية، متطرفة استهدفت أول ما استهدفته الحركة القاعدية و المتعاطفين معها.
ومما لاشك فيه فقد لعبت الحركة القاعدية و طنيا دورا هاما ليس فقط في تطور و انتشار أشكال الممانعة ضد القوى الظلامية فحسب، بل و كذلك في حركية و دينامية تجميع قوى اليسار و البحث عن قاسم مشترك لتجاوز واقع التفرقة و التشرذم. و هنا تجدر الإشارة إلى العديد من المبادرات التي ولدت بنفس طويل لكنها لم تواصل حياتها رغم حلمها بمشروع للتفكير و العمل و التي جاءت "في ظروف أخذ فيه السؤال بخناق الجميع حتى صار ملة لعموم الباحثين عن معنى لحياتنا و اعتقاداتنا و تطلعاتنا" ( أنظر افتتاحية العدد الاول من مجلة "على الأقل" التي كان يشرف عليها محمد معروف و عبد القادر الشاوي)، و هي نفس المجلة التي ستخصص في عددها 5/6- 1991 محورا خاصا بالحركة الطلابية تحت عنوان " الحركة الطلالبية إلى أين"، تناول لأول مرة حوارات مفتوحة مع الطلبة القاعديين و طلبة الاتحاد الاشتراكي و طلبة التقدم و الإشتراكية و طلبة الاتحاد الاشتراكي (اللجنة الإدارية) بالإضافة إلى حوارين مع فتح الله و لعلو و عزيز المنبهي.
مع هذه النماذج من أشكال تتبع مسارات الحركة القاعدية، كان من الممكن رسم معالم الطريق الجديدة المؤدية إلى القطع مع اتهام هذه الحركة بالتطرف و بالإلحاد و الفوضوية و العدمية و نعتها ب"الابن العاق" و "السيخ" و "باشمركة" و نعوتات أخرى قدحية و عدوانية.
و رغم هذا الوضع المتردي و الغامض في التعامل مع الحركة القاعدية، و في ظل اشتداد طوق الحصار على الطلبة القاعديين، استمرت مجموعة مجلة اختلاف في نضالها الإشعاعي، الثقافي و المعرفي في إصدارها لسلسلة من "منشورات الحرية" حول الإسلام السياسي و المجتمع المدني و حول القاعديين ( أنظر في هذا الصدد: من هم الطلبة اليساريون؟ من هم القاعديون؟ و هو كتاب جمع أغلب وثائق الحركة القاعدية، أعده عبو سعيد و قدمه محمد الهلالي). لكن الآراء و التمثلات المتناقضة فيما يخص مصادر و أسباب و ظروف نشأة الحركة القاعدية و تلك الأسئلة المحرجة التي ارتبطت بها، أثرت بشكل واضح في المواقف و الآراء النقابية و السياسية اتجاه و داخل الجامعة.
و اليوم، و من دون مزايدة، نستطيع القول أن ما قدمته الحركة القاعدية من شهداء و معتقلين و مغتربين و مهاجرين لم تقدمه الحركات اليسارية الأكثر شهرة ببلادنا.
لكن، ورغم أن أغلب بل و ألمع خريجي الحركة القاعدية هم أطر مغربية في العديد من المجالات و القطاعات و التخصصات، وعززوا المؤسسات الوطنية و الأحزاب السياسية و النقابات و جمعيات المجتمع المدني بكفاءات عالية، و رغم التضحيات الجسام التي قدمتها الحركة من أجل الحق في التعليم و ربط النضال الطلابي بالنضال الجماهري العام و مساندة حركات التحرر و الشعوب المناضلة لمدة تفوق 30 سنة، لم يكتب بعد لهذه الحركة أن تتحول إلى حالة نظرية يتم التعامل معها كموضوع مبني بفعل وسائل إنتاج نظري (بلغة لوي ألتوسير)؛ لا زال الحصار يطوقها من كل صوب وحدب، و هو ما يسيء فهمها و يشجع أعداءها على ممارسة العنف ضدها.
و لأن الحركة القاعدية حركة جامعية، سلمية، مستقلة و متحركة، متنقلة و غير مستقرة، و لأن اليساريون المنضوون في أحزابهم طلقوها بعدما حصلوا على و صل الإيداع، و لأن الزمن زمن التحرر الاجتماعي و الإنساني، و لأن التربية و الحرية و الوطنية و المواطنة و احترام الدستور.. ميادين لا زال اليساريون لم يستأنسوا بها و معها، و لأن القصور في الوعي التاريخي قاد الماركسيين المغاربة لتمثل الماركسية بدل التعامل معها "كوعي متميز بالتاريخ، غايته التعرف على التاريخ و تحويله في آن، أو غايته معرفة التاريخ، من أجل الإسهام في صياغته (أنظر في هذا الصدد: "الفعل السياسي و الوعي التاريخي" لفيصل دراج، مجلة النهج، العدد 42، 6 شتاء 1996 )؛ فلننتظر ماركسيين جدد ينتجون ماركسية تقدم المفاهيم النظرية على ماركسية التحريض و الأخلاق و النفاق الاجتماعي، و تطور أدوات الدفاع الذاتي لدى المواطنين. هذه الماركسية لا يمكن أن تتطور إلا خارج التنظيمات السياسية الحالية، لأن هذه التنظيمات تقتل الإبداع و الحرية لدى مناضليها، و لأنها أصبحت اليوم – هي نفسها- جزء من المعضلات التي يجب التفكير في معالجتها مستقبلا.
أخيرا، أبينا أم كرهنا، ستظل الجامعة تتخبط في أزمتها و في عنفها مادام الحظر العملي مسلط على رقابها، و ما دام العمل النقابي الطلابي مهجور من طرف الدولة و القوى السياسية الحية و النقابات العمالية و جمعيات المجتمع المدني، و مادامت الدولة لم تتصالح بعد مع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، و ما دامت الجامعة تعتبر الملجأ الوحيد لأبناء الفقراء و المستضعفين بعد الجيش و الأمن.. و ما دامت الجامعة المغربية تعيش على هامش الإصلاح الاجتماعي الشامل: الاقتصادي و القانوني و السياسي و الثقافي، و ما دامت القوى الحية ببلادنا عاجزة على خلق كثلة و طنية ديمقراطية تعني بالدفاع عن الجامعة المغربية بكل مكوناتها.
و في انتظار البديل، يظل كفاح الحركة القاعدية في حاجة إلى التفكير و الفهم، لكي لا يظل التعامل معه كسلعة سياسية منبوذة و مرفوضة لدى من يتحملون المسؤولية الفعلية فيما وصلت إليه الجامعة المغربية.
و ختاما، نستحضر بهذه المناسبة جاك لوغوف"Goff el Jacques أحد أعمدة التاريخ، "المؤرخ الغول"، أكبر مؤرخ فرنسي في هذا العصر. عاش عمرا مديدا و حافلا بالعطاء و الإنتاج، زاهدا و عالما مكتشفا العصر الوسيط في التفكير المعاصر ( أنظر" جاك لوغوف مكتشف العصر الوسيط في التفكير المعاصر"، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الأحد 6 أبريل 2014). غادرنا خلال هذه السنة بعد رحلة في واقع الحياة دامت 90 سنة، أنتج فيها ما يقرب 40 مؤلفا، في اختصاصات متنوعة كالتاريخ الاجتماعي، و التاريخ و الذاكرة، والأنثروبولوجيا التاريخية و مؤلفات جماعية أخرى شملت قضايا فكرية و معرفية ذات قيمة علمية و منهجية كبيرة؛ لنقول ما أحوجنا جميعا لتراث هذا " المؤرخ الغول" لكي نتعلم كيف نقرأ تاريخ أحداثنا و وقائعنا و حركاتنا، و لنتعلم كيف نضعها في سياقها الزمني و التاريخي من أجل اكتساب القدرة على التمييز بين ماضيها و حاضرها.. وكيف نستوعب بالعلم و المعرفة مفهوم الذاكرة، و رهان الذاكرة المشتركة كجزء من رهانات المجتمعات المتقدمة منها و المتخلفة، و كجزء من رهانات الطبقات السائدة و المسودة، التي تناضل من أجل السلطة، أو من أجل التشبث بالحياة، أو من أجل النجاة و الترقية.
الكاتب : | المريزق المصطفى |
المصدر : | أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل |
التاريخ : | 2014-08-21 19:16:30 |