آخر الأحداث والمستجدات
عودة الحياة لساحة الهديم بعودة فرجة "الحلقة"
بعد سنوات على إيقاعات الجمود والخمول، ها هي ساحة «الهديم» التاريخية بمكناس تستعيد شيئا من حيويتها المعهودة وقسطا من وهجها الثقافي والفني، وبعضا من نشاطها الدؤوب من خلال عودة «الفرجة الحلقية» لتأثيث فضائها المتميز.
برجوع فن «الحلقة» إلى هذه المعلمة الأثرية المتجذرة والمتوغلة في عمق التاريخ، تكون البسمة قد آبت لتعلو وجوه الغيورين على هذه الساحة التي تنعت بتوأم ساحة «جامع الفنا» بمراكش الحمراء، بل وسيكون أمل الاسترزاق من أرض هذه الساحة قد رجع من جديد لعشرات ممتهني ورواد فن «الحقلة»، الذين بقدر ما تأسفوا كثيرا لإفراغ هذا الفضاء الساحر من حمولته الفنية والثقافية لردح لا يستهان به من الزمن لسبب أو لآخر، ما جعل الأحياء منهم يعززون جحافل العاطلين دون سابق إنذار، بقدر ما فرحوا كثيرا لهذا القفول الذي من شأنه أن يشكل لهم مصالحة مع تراب الساحة شبرا شبرا، وكذا مع عشاق الألوان الزاهية والأنواع المتعددة لفن التراث الشفهي فردا فردا.
حيوية بعد جمود ... ولكن!
لم تحل فرحة «المعلمين الحلايقية» الذين أبوا إلا أن يساهموا بدورهم في إعادة الروح لهذا الكيان، دون إقرارهم واعترافهم بالحقيقة المرة، والمتمثلة في البون الشاسع بين الماضي المشرق الذي عاشه فن «الفرجة الحلقية» بساحة «الهديم» كما وكيفا، والحاضر المعتم الذي يحياه هذا اللون الفرجوي بهذا الفضاء، لدرجة يمكن القول معها إن الساحة نجحت في استعادة «الحلقة» على مستوى الشكل فقط، وفشلت بالتالي في استرجاع واستنساخ سيناريو العصر الذهبي لفنها، إن على مستوى مضمون الفرجة المقدمة بكل ما تحمله الكلمة من مدلول، أو على صعيد نوع المتفرجين والمتلقين، بمعنى أن « الحلقة» حاضرة اليوم بشكلها وبمكوناتها من «حلايقية» ومتلقين، وغائبة بمنتوجها الراقي وبروادها الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر رافضا البتة تعبئة مطبوع «استئناف النشاط» إما بسبب كبر السن واشتعال الرأس والذقن شيبا، أو بسبب الخوف من تقديم عمل فرجوي لا يليق بالسمعة الطيبة التي رافقت تاريخ «فن الحلقة» منذ عقود.
وشهد شاهد من أهلها...
قد لا يستشعر هذا التوجس الكبير الذي يتملك هؤلاء الرواد الذين كان رأس مالهم الوحيد الكلمة الطيبة المرحة والوجه المرحب البشوش، إلا من شكلت «الحلقة» جزءا من نشاطه اليومي ومصدرا لرزقه، كما هو الشأن بالنسبة إلى قيدوم رواد الحلقة بمكناس، محمد بن عيسى الملقب بـ «المسيح» (75عاما)، الذي يقر بأن رجوع «الفرجة الحلقية» لتأثيث ساحة «الهديم» الأثرية لا يعني في شيء استعادتها لوهجها الثقافي والفني، كما كان الأمر في السابق، حينما شكل هذا الفضاء التاريخي على امتداد عقود من الزمن مرتعا خصبا ومكانا متميزا للفرجة والتسلية، بل وللنكتة المرحة والسرد القصصي من خلال تلكم اللوحات الفنية الراقية التي جسدتها «الحلقة» على أكثر من مستوى وصعيد.
فــــــــلاش بـــــــــــــاك...!
وفي هذا الصدد، يقول «المسيح»، الذي تربطه بفضاء هذه الساحة العريقة وشائج وجدانية تتعدى عتبة نصف قرن من الزمن، «مازالت ذاكرتي الثملة براح التعلق والدفاع عن تراثنا المغربي الأصيل ومعه مقومات التاريخ الاجتماعي للأدب الشعبي...أقول مازالت هذه الذاكرة المهزوزة تحتفظ إلى أبعد حد بسيناريو المشاهد المتنوعة التي غالبا ما استحوذت على قسط مهم من الوقت الثالث لشريحة عريضة من المهتمين والمثقفين والمتتبعين... لقطات ستظل عالقة بذهني ما حييت، فهذا «القرداتي»، وقد جلس القرفصاء يصدر أوامره الصارمة للقرد «ميمون»، الذي لم يكن تناوله المتقطع لحبات «عباد الشمس» ليشغله عن تشخيص أدواره المتمثلة في محاكاة وتقليد بعض النماذج الآدمية (جلسة القايد، نعاس المزلوط، مشية السارح...)، بطريقة ساخرة تسرق من الوجوه الشاحبة للمتفرجين قهقهات يكاد صداها القوي يفتض بكارة معلمة «باب منصور العلج» المطلة على الساحة. وهذا «عمي البهجة الحكواتي» الأعرج، وقد تربع على بقايا كرسيه الخشبي يحكي فصولا من القصص البطولية التاريخية (العنترية، الأزلية...) بأسلوب أخاذ يستهوي آذان المستمعين، الذين ينصهرون مع الرواية، وينخرطون في أحداثها ووقائعها بكل كيانهم وجوارحهم إلى حدود التماهي وأجسادهم ثابتة لا تتحرك كمومياءات فرعونية محنطة. وهذا «عمي البزاويز» صاحب حلبة الملاكمة المتنقلة، وقد تجمهر حوله حشد غفير من هواة «البوكس» للاستمتاع بمواجهات ودية لمراهقين سرعان ما تتطور جولات مبارياتهم إلى اصطدام دموي حقيقي خارج محيط «الحلقة/الحلبة».
وهذا «مداح النبي» صاحب آلة «السنيترة» العتيقة والجلباب الأبيض الناصع، وقد أطلق العنان لصوته البلبلي الرنان للتغني بقصائد في مدح المصطفى العدنان (صلى الله عليه وسلم) بأداء احترافي رائع لا يشعر معه المتتبعون، الذين يتشكل معظمهم من شيوخ بلغوا من الكبر عتيا إلا ورؤوسهم التي اشتعلت شيبا تميل يمينا ويسارا، وكأنها رقاص ساعة حائطية.
وهذا «الثنائي المسرحي الفكاهي»، الذي أبدع في تمثيل «اسكيتشات» مرتجلة من تأليف وسينوغرافيا الفراغ وإخراج وتوضيب الحاجة الملحة إلى كسب دراهم معدودة تسد رمق البطون الجائعة.... وهذا ...وهذا... وربما لن نفرغ من هذا... لكن أين ساحة الهديم اليوم من هذا الكشكول الفرجوي المتنوع...؟»
بهذا الاستفسار الموجع، آثر «المسيح» إنهاء فصول الدردشة القصيرة التي خص بها «الصباح»، وكأني به يعيش على آلام التحسر على زمان فن «الحلقة» في أبهى تجلياتها وتمظهراتها وآمال عودة الروح لكيان هذا اللون المغتصب.
بدورنا نتساءل «هل ستفلح ساحة «الهديم» التاريخية في استعادة كامل وهجها الثقافي والفني مع تعاقب وتوالي الأيام؟ أم أن «الفرجة الحلقية» بهذا الفضاء المتميز ستظل على حالتها الراهنة؟
لـ «الغيوان» حضور في الحلقة
لا يمكن للمار وسط الساحة أو حتى بمحاذاتها، راكبا كان أو مترجلا، ألا ينجذب لسماع أغاني من «ربيرتوار»مجموعة «ناس الغيوان» الشعبية، لدرجة يمكن القول معها أن هذا الفضاء نجح إلى حد كبير في استنساخ أصوات أفراد هذه المجموعة، الأحياء منهم و الأموات، إذ أن «غيوان» الساحة يجيدون ويبرعون حقا، بل ويتفننون في أداء رائعة «الصينية وأخواتها» بشكل احترافي وأخاذ لا يشعر معه المتحلقون، الذين يتشكلون من الجنسين معا، إلا وألسنتهم تردد بشكل تلقائي مقاطع من روائع وخالدات أصدقاء الراحلين العربي باطما وبوجميع.
إلى ذلك، فإن دور مكونات هذه الفرقة لا يقتصر على تشنيف أسماع المتلقين بمختارات من الفن «الغيواني» فحسب، بل يتجاوزه إلى حد النبش في «ألبوم « المجموعات الأخرى كجيل جيلالة، ولمشاهب، والسهام...
الكاتب : | خليل المنوني |
المصدر : | الصباح |
التاريخ : | 2013-10-12 17:59:33 |