آخر الأحداث والمستجدات 

مَكينَةُ طحين ما طحنت إلا أحلامنا الصغرى بحي الزيتون

مَكينَةُ طحين ما طحنت إلا أحلامنا الصغرى بحي الزيتون

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس قد تخبو الذكريات غورا،ولا تبقى منها إلا تلك الأطلال الشاهدة عن أحداث آتية من الماضي. شواهد مكان مرمية هنا وهنالك بالتلف والنكران والاندثار. بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، بقي حديد (مكينة الطحين) كما كنا نسميها ونحن صغار السن بادية، وتحارب النسيان، وتعلو سماء حي (المعاركة) شاهدة عن طاحونة الطلاسيم التي ما طحنت إلا أحلامنا الصغرى بحي الزيتون. 

اليوم لن أتحدث عن أطلال بيت الحبيبة، التي رحلت من وجع صمت الحياة بدون عودة إلى الوراء. ولا عن شجرة الزيتون التي تحمل الحروف الأولى بتوقيع الوفاء (أنا ليك، وأنت لي). اليوم سيكون حديثي عن أول (مكينة) مطحنة للقمح والشعير بحي الزيتون الجبابرة بمكناس. كانت بحق(طاحونة الطلاسم)التي تحركها الطاقة الكهربائية، بدل الجهد اليدوي/العضلي من عهد التاريخ الحجري.

 

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، كانت تلك (المكينة) التي نقصدها جميعا لطحن القمح، والشعير، وتشريد الفول، وقمح الزميتة الذي كان بحق صداق العيساوية أيام النخوة المكناسية. كانت (المكينة) عبارة عن بناء بسيط مغطى بالقصدير. كانت رحاها تدور باتساع خاطرأبا محمد (أحمد الريفي) وأبا قاسم (النصيري). فحين يكون (أبا قاسم) في نشوة تامة، تُشَغل (الماكينة) الطاحونة بكل أريحية وبالسرعة القصوى. ويمكن أن تحظى بلحظات سعيدة لأن تصعد إلى علو (جفنة)، ويكون لك شرف صب القمح في حوضها (الجفنة)، إنها حقا كانت لحظات لا تنسى من الصغر، ونحن نحمل كيس القمح المطحون على أعناقنا، ونصبح في الأخير بيضا مثل (فئران التجارب بيضا) من شدة ليونة الطحين الدافئ.

 

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، كنا نقطع المسافة الطويلة بين مسالك الجنانات (العراصي)، والقصب المتدلي منها، كنا نتقن فن الارتكاز وقوفا من (الزليق) في( درب الغيياسة)، ونحن نعيش في نشوة من حياتنا الصغرى الفرحة. كنا نلتقي أبناء الحي جميعا عند مدخلها وننتظر المعلم الثاني (أبا أحمد الريفي) حتي يأتي وهو يحمل ذاك (القراب) الذي صُنع من الدوم، ولا نعلم ما يحتوي داخله، إلا حين نشتم رائحة بالمطحنة مغايرة عن أنوفنا الصغيرة، ولا تشبه دخان السجائر !!! كنا نتساءل: لما قنينة الشاي لونها أسودا داكنا؟ آه منك يا دنيا!!!

 

بحي الزيتون الجبابرة، بمدينة مكناس، بالمدينة الأميرية، كنا نتمرن على احترام الصف عبر(تصفيف الأكياس). ونتملك سلوكيات الإنصاف والعدالة، ومعادلة حق المساواة أمام طاحونة الطلاسم التي لا تتوقف إلا بأمر من (أبا قاسم). كنا نتعلم بيننا القيم السمحة، وتربية أخلاق العناية بتسبيق الشيوخ، ونسوة الحي، وباحترام تام وبزيادة تقبيل الأيدي، وانتظار دعاء الله يرضي عليك أولد آيت الحاج عبد الكريم (رحمه الله). كانت حتى مواعيدنا الغرامية الصغرى بالإعجاب، تتم أمام المطحنة ونحن حد سن التمييز، ونتعلم فن رسم القلوب وبدايات الحب العذري.

 

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، لن أبكي عند أطلال (المكينة)، فكل المعالم قد تغيرت، وتبدلت حتى الوجوه منها. حتى بيت جدي الكبير الحاج عبد الكريم (رحمه الله) انمحى من الواقع،غير الذاكرة التي لازالت تتسع له وتستحضر مكانه وشكله، وأصبح قسمة من آجور أحمر، آه منك يا دنيا المتغيرات!!! اليوم يبقى آثار (المكينة) شامخا بحديده الصدئ، وهي تقول للتحولات: بئسا لك أيها العمر المتحور بالتغيير، واشتعال الرأس شيبا !!! بئسا لك أيتها التحولات الآتية من المخابز والمطاحن الكبرى، والتي ما طحنت إلا عرق العمال والأجساد المنهكة، والبطون بالأمراض والتسمم!!!

 

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، تقول طاحونة الطلاسم: قد شاخ بي النسيان، والإهمال من أبناء جيل حي الزيتون الجبابرة، ومن مَن عاصرني وقضى الله فيه أمرا. تقول: انظروا قد شاخ حتى من كان يحمل كيس قمح منزله عندي صغيرا، وبات لا يتذكرني أو يترحم علي حتى بكلمات بريئة (كنت هنا يوما ما !!! ).

 

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، اليوم هي الأطلال الباقية التي لم نقدر نحن ساكنة الزيتون الجبابرة من حمايتها، باعتبارها رمزا من تاريخ مكان، وساكنة أصيلة تربت على الأنفة والتقدير،والوفاء للإنسان والمكان. لم نستطع كما أخبرت سابقا من أبي (بنسالم رحمه الله) أن نسجلها في التاريخ الماضي المكتوب لا الشفهي، وأن الشهيد المهدي بن بركة (الاتحادي) قد عقد اجتماعا مع ساكنة حي الزيتون بالقرب منها. اليوم، حين اقتربت منها دنوا سمعت مسامرها الداخلية، تحكي دمعا عن الزمن الماضي الذي ما انفك يمضي بمائه وعراصيه وناسه.

 

بحي الزيتون الجبابرة بمدينة مكناس، تذكرتني الطاحونة باسمي، وأنا صغير السن بالتمييز حين كنا نسميها (طاحونة الطلاسم) نسبة إلى نص قراءة أحمد بوكماخ ( طاحونة الطلاسيم التي حويت ما بالعالمين) وهي الجملة التي لم نفهما دلالتها بتاتا باللغة العربية، بل كما نحولها إلى الحمولة (الدارجة) ونضحك خُفية !!! اليوم، لم أحمل لها كيس قمح من بيت جدي (بدرب بوقطيب الغيياسة)، فالزمن قد فعل فعلته بمن سكنه واستوطنه. اليوم، أتيت (مكينة الطحين) بشمعة نهارا وأشعلتها على (جفنتها) العلوية، حتى نتذكرها جميعا كتراث حي أصيل، وما كان يصطلح على تسميته (المكينة).

 

(حلقات رمضانية عن أحداث وأمكنة بحي الزيتون)

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب :
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2022-04-26 20:42:39

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك