آخر الأحداث والمستجدات
الشاعر ياسين عدنان يكتب عن مكناس
خارج مرور عابر بمكناس العام الماضي وأنا عائد إلى مراكش من عطلة سريعة خطفتُها خطفا بإفران، يمكنني الزعم أن مكناس ظلت دائما إحدى الحواضر المغربية الكبرى التي أخجل من جهلي "المُشين" بها. لذا كنت سعيدا هذه السنة وأنا أدعى لأول مرة إلى المهرجان الوطني للمسرح الذي تحتضنه العاصمة الإسماعيلية منذ دورته الأولى. فرصة طبعا لأكتشف هذا الزخم الفياض من العروض الذي يعكس الثراء الجميل الذي تعرفه الممارسة المسرحية ببلادنا، وكذا هذا الاستعداد المغربي "الفطري" تقريبا للانفتاح على كل المدارس والتيارات والتجارب المسرحية العالمية بروح تنحاز بشغف إلى الحرية والتجريب. لكن الأهم هو أنني وجدت نفسي أخيرا في مكناسة الزيتون.
وأخيرا أنا هنا. في مكناس. أكتشف إحدى أجمل مدن المغرب. تذكرت يوم استضفت سعدي يوسف في مشارف (الحلقة متاحة على اليوتوب). تحدثنا عن الشعر والأمكنة، انطلقنا من البصرة وبغداد وطفنا بمختلف المنافي التي ترحَّل بينها سعدي. وحينما صلنا إلى المغرب ذكرت له مراكش، فزايد عليّ بمكناس. قال لي سعدي أنه يفضل مكناس على مراكش. فمكناس بتعبيره البليغ "مدينة لأهلها". وأنا أتجول في المدينة القديمة هنا استوعبت تماما كلمة سعدي. مكناس مدينة لم تنل منها السياحة ولم يستبحها السياح. لذلك يحس المرء أن المدينة مازالت تحافظ على العديد من المظاهر التي عرفناها في مراكش السبعينيات لكنها اختفت من الحمراء منذ أكثر من عقد من الزمن، لكنها ما تزال حية في مكناس. الأمثلة كثيرة في الواقع. تصادفها في أزقة مكناس وحواريها. تقرأها على وجوه أهل المدينة وعلى الجدران ايضا. البيوتات الجميلة ما زالت على رونقها الأصيل، لم يحولها الفرنسيون إلى رياضات بمعمار مستوحى من ألف ليلة وليلة، لكن لا علاقة له بعمارة المغاربة وفنونهم في هذا المجال. عجائز مكناس أنيقات وجلابيبهن بديعة: ما زالت تنتمي الى الزمن الجميل، زمن ما قبل الملابس الأفغانية.
حرف عديدة ما زالت تمارس وسط الدكاكين، بل وأمامها أحيانا، بشكل تلقائي تماما كما كان يحصل في مراكش الطفولة. باعة الملح. النجار والأشجار مقتلعة للتو أمام محله. كأنما ليذكرنا جميعا بأن هذا الباب من تلك الشجرة. وهذا المكتب من ذلك الجذع. غير بعيد عن ضريح المولى إسماعيل، فاجأتني دكاكين الحلاجين. يمشطون الصوف ويمشقونه أمام الدكاكين، وبرادة الماء متاحة للعابر وابن السبيل. في إحدى الأزقة العتيقة، والفسيحة نسبيا لأن بعض السيارات كانت تعبرها بأريحية، مر شخص يجر حصانا. توقف قليلا أمام أحد المحلات، تحاور قليلا مع صاحب المحل، والحصان واقف ينتظر. ثم جر حصانه وغادر.
أمس ساعة الغروب جلست قليلا في ساحة فسيحة وراء باب المنصور لعلج. أمام مسجد لالا عودة. وراعني منظر الخطاطيف. تذكرت رواية الأديب والسوسيولوجي الراحل عبد السلام حيمر (خطاطيف باب منصور). يا له من مشهد. أسراب هائلة من الخطاطيف تحوم بأجسادها الانسيابية البديعة فوق رؤوس الخلق حتى لتكاد تلامسها ثم تحلق عاليا من جديد وهي توطوط بأصوات عالية.
في جوطية مكناس كل شيء معروض للبيع. ما يخطر على بال وما لا يخطر على بال. وبأثمنة لن تجدها في أي مكان. صدقت يا سعدي، مكناس "مدينة لأهلها". في الجوطية وجدتُ بعض باعة الكتب القديمة ما زالوا يحضنون الكتاب ويحرصون عليه. تجولت بينهم مدققا في المحتويات. كتب أدب وفكر بمختلف اللغات. تذكرت أصدقائي من أدباء مكناس وصحافييها. بنعيسى بوحمالة، المختار لغزيوي، بوسلهام الضعيف والآخرون... لعلهم اقتنوا من هذه الجوطية بالذات كتبهم الأولى التي ورطتهم فيما هم فيه الآن. لعل "حرفة الأدب والصحافة" أدركتهم هنا، في هذه الجوطية بالذات.
في مكناس، أشاهد كل ليلة عملين مسرحيين. وأسرق يوميا فسحا للتسكع في المدينة. هذا المساء سأعود إلى ساحة لهديم وسأحرص على العودة الى الساحة البديعة خلف باب المنصور. فرقصة خطاطيف باب المنصور عرض فني لا مثيل له. كنت هناك بالأمس وسأحضر عرض الخطاطيف هذا المساء أيضا قبيل الغروب.
سلاما مكناس...
ناسها، أسوارها والخطاطيف..
الكاتب : | الشاعر ياسين عدنان |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2013-06-12 09:06:00 |