آخر الأحداث والمستجدات
زيارتي الأولى لمكناس، وعلامة أنقذوا...
شد بي الرحل إلى مدينة مكناس، حيث نلت دعوة كريمة من صديق مكناسي الأصل، يسكن بيتا مطلا على ضريح سيدي عمرو بوعوادة أبو حفص العثماني. زيارة لم أفلح بها لعدة مرات من إتمامها، لكن القدر سنها ويسر أمرها . عزمي اليوم على زيارة المدينة الإسماعيلية، شدني إلى الآثار التاريخي للمدينة المنسية كما يلقبها أهلها الأوفياء بصدق الكلمة. اليوم كل أمتعتي ما قلت، أحملها بمقصد مدينة الماء الحلو، من واد بوفكران الذي لم يبق منه ساعته إلا الإسم فقط وذكرى المعركة.
في الحافلة ، الكورتيي ينادي مكناس...مكناس سيدي سعيد ...مكناس سيدي سعيد ، استحسنت النداء لعرض بضاعة ورق السفر إلى مكناس مقرونة بضريح سيدي سعيد . لكن تعليق شيخ شد الشيب في لحيته، وسحا رأسه من منبت الشعر، علق على الأمر بالتطير، راه أولدي كان عندنا في مكناس سيدي سعيد مرتبط بالحبس والسبيطار ديال الصدر. لم أجبه، ولكن علامات وجهي أكدت له الجواب بأني لا أفقه من المدينة إلا الاسم وفقط ، وما تعلمته من كتب التاريخ حولها خاصة الفترة الاسماعيلية. لكنني داخليا رددت كلمات الله يستر لا من السجن ولا من المستشفى، وقرأت المعوذتين !!
توسطت كراسي الحافة ونلت موضعي بالجلوس . حافلة كالسوق الأسبوعي بين الصاعد والنازل، وبين المتسول وبائع مرهم حب الشباب وكتب الحواشي في تغسيل الميت ... في الجانب الآخر من المقاعد جلست شابة عمرها يفوق الثلاثين بقريب ، لا ألمح إلا غطاء رأسها الحجابي بشكله التركي. طلبات الجلوس بجوارها تكثر ممن صغر سنه من الشباب ، ولمن قطع نصف العمر. إجاباتها تتم بتحريك رأسها بالرفض وتقويس طرف عيونها المؤثثة بأرفع الرموش الاصطناعية ، ذلك يعني أن المكان به حجز. أثارني منظر الطلبات المتوالية، وشدني الفضول إلى من سيفوز بالقرب والجلوس بمحاذاتها ، وتجاذب أطراف الحديث معها ولو بالشًات إلى حدود مكناس .
لحظة حرك الحافلة صياح خصام بين سائق الحافلة ومساعده . كل ما نعرف أن المساعد يبتز الركاب حول حجم الحمولة ويحول التعويض عن الأمتعة الثقيلة إلى جيبه الأيسر. تدخل مراقب المحطة الطرقية وأمر الحافلة بالتحرك . وعند رفع رأسي وجدت أن المقعد المجاور للشابة قد أسكنه أجنبيا يفوق الستين ويزيد وجه تجاعيد الزمن، فيما الأذنين يتقاسمان سماعات الهاتف المحمول .عندها عرفت لما الشابة حركت رأسها غير ما مرة بالرفض ،إنه الوعد المنتظر لقطع البحار وتسوية الإقامة وشراء البلاكة الخارجية . فالشباب المغربي في ظل أزمة العمل والعطالة الكبسية، أصبح جلوسه بجانها ما إلا مضيعة للوقت و(هرًيد) الناب الخاوي فقط .
من بين حظي التعس جلوس أم مرضعة بجانبي وهي تحمل طفلها المدلل ذي السنتين تقريبا ، والذي لا يسكته عن البكاء إلا ثدي أمه ... تحركت الحافلة، وارتكنت إلى الجزء الأصغر والأقصى من مقعدي ، فأخوكم مكره لا مخير فالمرأة والحمد لله ، و قولوا معي تباركة الله، هي من الوزن الثقيل، في كل مرة تدفع إلي ابنها بدون إذن و لا حديث ولا مقدمات ولا استسماح . وكأنها تعرفني متم المعرفة، أو أنني مرافقها في رحلتها. شقت الحافلة الطريق وكأنها لا تبتغي السير و الوصول إلا الى نقاط التقاط الركاب ، واقتناصهم من جوانب الطريق بالتسابق والتكديس الداخلي .
مسافة قطعناها بتضاعف الساعات ، حتى لم أعد أعرف خريطة المغرب الطرقية ،وتهت في تحديد الأماكن . أشرفنا على مداخل مكناس ، قلت الحمد لله ، والتسليم لسيدي سعيد أبي بكر المشنزائي، والذي قيل لي بأنه أغلق أبوابه لأجل الإصلاح، أو لاختلاف الشرفة على اقتسام حصيلة صندوق هدايا الضريح . وحيث لم أتمم جملتي بمحل تفكيري الداخلي ، حتى قفزت واقفا من غثيان طفل امرأة الوزن الثقيل التي بجانبي . علا صياح بكاء الطفل، وزاد الأمر نتانة صوت الأم العلوي الأجش . حينها قررت الوقوف سلامة لملابسي وصونا لرائحتي ، ودرءا من التلوث الصوتي .
عند المحطة وجدت الصديق، الحاج المكناسي . نعم الرجل، ونعم الطيبوبة والخلق ، وبعد تبادل التحية مع توابل الصواب المكناسي المليح. تحركنا ، وأنا أحكي له عن رحلة الطفل الذي لم يفطم بحدود السنتين، وأمه بحجمها الضخم ...تبسم ولم يبادلني التعليق عن ملاحظاتي . قال لي قبل ان تلج رجلك أرض مكناس أطلب التسليم . بيني وبينكم فقد زرع الخوف في قلبي وفي إحساسي، خوف ليس من الجن، بل من الإنس المتربص بك، وما بناه من شباك وفخاخ السماوي . كان جوابي بسيطا، علي إذا زيارة (دار الضمانة ) وطلب التسليم . وصلنا باب الريح ،واستطرد مرافقي القول باب الخميس، وأسر لي فيما ذكر أن المكان يعرف حركة تيارات هوائية متلاحقة خاصة في فصل الحصاد مما جعل فلاحي مكناس ينصبون (كًاعة ) الدرس بمساحة ساحة باب الملاح القديم الخارجية .
وصلنا ساحة الهديم، وباب منصور يجثم عليها بعلوه وأقواسه. فيما حلقات الفن الشعبي هنا وهناك . والأساتذة المتدربون بوقفة دائرية به لإسقاط المرسومين ...فيما القرد لازال وصاحبه لا يفارقان ساحة الهديم . لكنها غاب عنها وانقطع صاحب حلبة الملاكمة " أيها بزاويز (عبد الجليل)..." ، وأولاد اشحيموا المختار الملقب (بالحنايشي / الساحر) ،والبهجة (قاص، قصص سيف ذو يزان وعنترة ) ، وبابا الكراب رحمه الله (السقاي ) مول الناقوس المريني...
حسن الضيافة لدى مرافقي الحاج المكناسي جعله لا يسكت عن ذكر مكارم أهل مكناسة والمدينة، ويكيل لها من الحب ما نوى. بعد جلسة بشرفة منزله التقليدي، انفردت بالموقع المطل على ضريح سيدي عمرو بوعوادة ، نلت الحظوة في ظل الصفوة ، والقرب من المتصوف الدفين ، لاحظت أناسا ببساطتهم في زيارة إلى الضريح ، فمنهم الشيخ والمرأة المسنة والشابة المغرمة التي تبحث عن قشة فك العكس ،ومنهم من زار لأجل استرجاع ذكريات لا يفصح عنها إلا من خلال استدارة المكان بعينيه . رشفت رشفة من كأس شاي أسكني طعمه لحظة بمكناس، وسكره الزائد بطيبة ناسها ، ألبستني الرشفة الساخنة من حرير الهند السلهام ، وبلغة السندباد من ألف ليلة وليلة.
عشية خرجنا باختراق أبواب (لالة عودة) بمتسع المحكمة الابتدائية ، تلحظ في وجوه القوم سعة صدر وانتظارية تراتبية لحركية المدينة التي ستأتي غدا إن شاء الله بموكب دركي حافل ... على باب الدار الكبيرة المؤدي إلى منازل الأرجل الذهبية لعصر نهضة النادي المكناسي ، الاخوة ( الغويني/معتوق / ديدي...) المرحوم الدايدي في الجهة الشمالية من المدينة القديمة ... ،لاحت لي عبارة مكتوبة على السور الاسماعيلي "انقذوا الكوديم " ابتسمت ،وسألت صاحبي الحاج المكناسي ،ماذا يحدث للكوديم ؟ هنا لاحظت مراوغة عفوية من الحاج ، لكني اكتشفت من تنهيدته الطويلة أن أمرا ما أصاب النادي المكناسي . قال ، ولم أستطع لحظة مقاطعته . إنها انهيار الرياضة بمكناس ، إنها مكناس العليلة التي سطت عليها أيدي الاظافر الخادشة الماكرة غير المستحيية من ماضيها ، إنها (الكوديم) التي لا تقبل أرض الملاعب انحدارها نحو قسم الهواة . ناولته ثانية بحطب الإفصاح ،وما السبب؟ ليس سببا بل الأسباب التي تعددت وموت المدينة واحد ، إن الأسباب أكبر من المعرض الفلاحي، والذي لم تستفد منه المدينة لمدة عقد من زمان إقامته . إنهم ناس مكناس الذين انكمشوا وانشغلوا باللعب وراء الستائر، وبناء الفخاخ بالمكائد والنميمة ، انه الفريق المكناسي الذي قال عنه حفدة سيدي قدور العلمي "... وآش ما عار عليكم يا رجال مكناس، مشات الكوديم في حماكم يا أهل الكرايم".
زيارتي لمكناس ألزمتني الفراش مرضا من خيانة أهلها لمقومات مدينتهم . ونحن بقبة السفراء تم القبض علينا بدون مقاومة ولا تجمهر للمارة ، لحد الآن لا ندري سبب اقتيادنا الى الحبس / السجن ،أهو مناقشتنا لحال مكناس المتأزمة أم ماذا ؟ مرافقنا الحارس الأمين، تلحظ هو من الشداد الغلاظ الذي لا ينطق الكلمة إلا بعد وزنها معرفيا وتاريخيا وحقوقيا . نزلنا السلالم وفتح لنا الباب الحديد، دون أن يصفد أيدينا ، لم يمارس علينا أي نوع من قمع الحراس ولا استبدادهم . بل تمت معاملتنا كمعتقلي رأي ومعرفة .
الفزع الداخلي حل بي ، ولمحته كذلك في وجه صديقي الحاج المكناسي . قلة الأضواء جعلتنا نحتمي بشد الأيدي بيننا . لا أكذب عليكم فمن دخل هذا السجن مفقود ، ومن خرج منه مولود .لم تكن الزنزانة التي رقمت لنا في أوراق دخولنا واعتمادنا به قد وصلنا إليها ، لكن دهاليزه ،مساراته ،رطوبة جوه كلها حركت فينا دقات القلب بالتسارع ، وزادت من ضغط دمائنا وضخها إلى المخ . سلاسل تذكرك بأنين أصحابها . ناديت الرحمان الرب العلي القدير في سري وعلانيتي على أن يفك أسرنا بخير سالمين . طفنا يمينا وشمالا حتى وصلنا موضعنا . هنا مرافقنا ابتسم لأول مرة وكأنه بلغ مراده ، هنا نهايتكم، هنا متم جولتكم . رفع الحاج المكناسي رأسه بقوس الحاجبين، حينها لاحظ أن الخوف شعشع وأخذ يسكننا، ولم يعد لي إلا البكاء والصياح .
بدأت المساعي الحميدة مع مرافقنا بالبحث عن التهم الموكولة إلينا ، وعن مدة دوام الإعتقال الاحتياطي .لكنه كان يستعمل حركات رأسه إما بالإيجاب وإما بالرفض . ناديته من كل قلبي . راه خوك، ماشي من أهل مكناس و طلب التسليم بدار الضمانة ، فلما أعاقب بذنب من سلب دار سيدي قدور لعلمي، وطوح بالنادي المكناسي إلى الهاوية، وجمد نهضة مدينة منذ الزمن الأبعد . راه خوك ، جاء لمكناس وطلب التسليم منكم يا أهل مكناس ردوا البال لمدينتكم ، والدار لمولاها ، والكوديم لصفوة الاحتراف. بعد أن حن شيئا ما . أمرنا بالترجل خارجا أمامه، عمت الفرحة بعد قهر الدهاليز المظلمة ، وتنفسنا جميعا نفحة ياسمين هواء مكناس عند قبة السفراء .
أعرفكم سادتي الكرام ، أنكم أشفقكم عني ، أعرف الخوف الذي امتلأكم من القبض علي في أول زيارة لمكناس . لكني نسيت إخباركم بأن الأمر تم لنا عند زيارتنا لحبس قرى ، حبس معارضي المولى إسماعيل، وأسرى صليبيي حروبه ، فلم يكن المرافق (الحارس) إلا ذاك المرشد السياحي الذي يزيد من القول حلاوة ،ويرجع من كثلة جبل بياضة القريبة من صهريج سواني (عجينة ) لأسوار المولى اسماعيل.
مكناس ، أيتها المدينة الشقية بناسك وأهلك ، بأفكارك اليسارية الثورية ، شربت حبك بأول لقاء لي بك ، تيمت بحب ماضيك ،فمن الآن لن أخرج عن أبواب أسوارك ،وستبقى أنفاس طيبك نسيم حياتي ، سيأتي يوم تستفيقين كطائر الفنيق من رمادك .
ذ محسن الأكرمين
الكاتب : | محسن الأكرمين |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2016-02-19 16:08:14 |