آخر الأحداث والمستجدات
سلطة المجال الواحي في إقـليم الــراشيــديـة
تشكل العادات الاجتماعية الأساس الحقيقي لفهم ما يجرى في مجتمع الواحة، فهي المنظمة والموجهة لسلوك الأفراد داخل المجتمع، أو قل هي الروح التي تسري في شرايين كل فرد من أفراده، وهي بذلك تكون الأساس المشترك بينهم "التركة" التي من حق الكل أن يستعملها ويستغلها، لكن بدون أن يكون حق امتلاكها، وحيازتها، فهي الإرث الذي ليس من حق أحد إنه إرث الجماعة الاثنية كلها وبذلك يسعى كل واحد على الحفاظ عنها عن طريق العمل بمكوناتها واحترام توجيهاته، فهي تشكل دستور المجتمع، لكنه دستور غير مكتوب وغير صادر عن مؤسسة بعينها أو فرد بعينه فهو صادر من الكل وموجه إلى الكل، إنها القوانين المحفوظة بذلك يكون التعامل بها تلقائي وعفوي، فهي لا تحتاج الي التفكير المتأني والتأمل الرزين، إنها مستنبطة فينا منذ البدايات الأولى لحياتنا، ما يجعلها تمتاز بتجذرها البنيوي في لاشعورنا.
فالمصلحة المشتركة والرغبة في تجاوز العزلة هي ما يدفع البشر إلى الدخول في تنازلات وتوافقات مستمرة ودائمة، ولاستمرار هذه العلاقات الضرورية من أجل العيش لابد من قانون ينظم تلبية تلك الحاجيات المتبادلة سواء بين البشر والمجال أو البشر فيما بينهم، "فلا يوجد في نطاق المكان حرية بدون حد أدنى من التنظيم وهو تهديد لكل شخص يقيد استقلال اختياراته" .
فالمجال يجب ألا ينظر إليه نظرة ضيقة بوصفه مجرد تنظيم فزيقي مادي وأخص بالحديث (المجال الواحي) فالمجال هو أيضا ثقافة مرجعية وشخصية قاعدية بعبارة علماء النفس الاجتماعيين وهنا إشارة واضحة لتأثير المجال على الأفراد بدءا بإرادة ذويه، وإرادة ذويه تستمد من الثقافة المرجعية التي تنتمي إليها الساكنة فالمجال حامل للسلطة وهي سلطة الرمز والثقافة.
تتأثر الحياة الاجتماعية بواحة فركلة (إقليم الراشيدية)، كما هو الحال في كل تجمع إنساني، بوجود أنظمة وإشارات معروفة لمن يتواجدون على اتصال وهذه الإشارات هي التي تسهل تبادل المعلومات وعقد المحادثات والتغلب على القلق الذي يولد العزلة، وتختلف هذه الرموز التي تعقد عليها هذه المبادلات (اللغة والثقافة) من اثنية لأخرى، وهذا يعطى للفرد إمكانية التعبير خلال التكيف والتأقلم والذي قد يسمح بانتقال عناصر ثقافية من جماعة لأخرى وهذا ما يصطلح عليه باستيد Bastid عملية التثاقف، إلا أن هذا يبقى حبيس مساحات ثقافية حيث الرموز بين الجميع مشتركة ومعروفة، فالحياة الاجتماعية ككل تجد نفسها متأثرة بهذه التقاطعات الكبرى للمكان الإنساني.
لعل من سمات العنصرية البين إثنية بواحة فركلة (إقليم الراشيدية)، الانغلاق والعزلة، فمنذ الوهلة الأولى يبدو وللملاحظ أن تنظيم السكن داخل مجال القصر (إغرم) ليس تنظيما اعتباطيا وإنما محكوم بسلطة الرمز والثقافة، بتمثلات الجماعة ورغبتها في الحفاظ على تلك التراتبية والسلمية بين أفخاذ (إغسان) القبيلة الواحدة وما بالك، إن تعلق الأمر بأقليات دخيلة أو كانت في الماضي من غير ملكية كما هو حال (الخماسين) الذين كانوا في الغالب حراطين، أما المرابطين والشرفاء فالبركة منحت لهم الأراضي حتى كادوا يصبحون أصحاب إقطاعات، في حديثنا عن هذه التفرقة التي أنتجت الانغلاق والانطوائية نأخذ على سبيل المثال قصر "الخربات" نجد زقاق الحراطين لوحده في حين تتوزع الأزقة الأخرى حسب حظوة كل فخدة من آيت مرغاد (فنجد زقاق إربيين، أيت محمد، آيت إيوب) وهكذا دواليك...
هذا التقسيم في احتلال المجال من الأكيد له دواعي وخلفيات نفسية واجتماعية لم تجد بدا إلا أن تنعكس بهذا الشكل أو ذاك ولها تأثير بالغ على مجال العلاقات الاجتماعية والتفاعل اليومي بين الأفراد والجماعات، ففي سؤالنا لأحد المبحوثين عن طبيعة العلاقة بين ساكنة (إغرم) ردا قائلا "السود لا يمكن أن تجمعنا بهم علاقة أكثر من العمل، فهم يبيعون لنا قوة عملهم برضاهم، لأننا نحن نملك الأرض، فالأعمال الشاقة والمتعبة هي حظهم لأن الله أراد لهم ذلك لونهم هو سبب تعاستهم، وأردف قائلا لتتأكدي أنهم لا يعرفون أي نظام ادخلي إلى بيت أحدهم وستجدين الذباب والأوساخ في كل مكان...".
يحمل هذا التصريح قناعات راسخة في لاوعي المبحوث في استحالة نجاح أية علاقة مع المختلف لونا وثقافة، مبررا ذلك بحجج تبدو بالنسبة إليه كافية وقاطعة وبالتالي حصر العلاقة الممكنة في العمل.
من زاوية أخرى فالعلاقة المكهربة والمتوترة ستعطي أشكال من العزلة والانطوائية، فاستمرارا في الفكرة التي عرضنا جانبا منها، فهناك جانب آخر يبدو ملفتا لأي زائر وحتى وإن لم يكن باحثا، وهو التفرقة في أماكن العبادة فداخل المسجد "لا يحق للأسود أن يصلي في الصفوف الأمامية، عليه أن يبقى دائما في الوراء" هذا ما حكاه أحد المسنين ولم يبقى الأمر عند هذا الحد فقد وصلت حدته إلى بناء مسجدين حديثين واحد بناه آيت مرغاد والآخر بناه إقبلين، وفي رحلتنا للبحث عن أجوبة لكل الأسئلة التي تتعلق بالموضوع، ما أمدني به المخبر كالتالي "المسجد القديم كان من ملك الجماعة كلها، لكن لما اندثر، فأمغار والجماعة كانوا بصدد نقاش حول بناء مسجد جديد دون إشراك إقبلين في هذا النقاش، فأحسوا هؤلاء (بالحكرة) والدونية كأنهم غرباء بالتالي بنوا مسجدهم (بإنورير) بأموالهم الخاصة، هم من بادروا إلى هذه التفرقة، خلاصة الأمر الآن أصبحت الأمور هادئة، يمكننا أن نصلي في مسجدهم ويصلون في مسجدنا، لكن نحن نفضل ألا نختلط معهم فلنتركهم يشعرون بأنهم لم يكونوا مثلنا مهما فعلوا...".
نستشف من أقوال المبحوثين مدى التوتر الطابع للعلاقة، حيث انعدام ممثل إقبيلن داخل "الجماعة" أعطى بالضرورة عدم إشراكهم في الرأي حول أمور تهم القبيلة، هذا في السابق لم يكن ليشكل مشكلا لأن السود كانوا أقلية تابعة لآيت مرغاد لكن بعد أن امتلكوا الأرض فقد أصبحوا جزء لا يتجزأ من القبيلة ومقتنعون بحقهم في إبداء الرأي والمشورة، وأي شكل من أشكال إبعادهم سيتمردون عليه، كما حصل في أمر المسجد.
من زاوية أخرى فالتحفظ من الاندماج والانصهار تبرره قناعة أخرى ألا وهي الخوف من فقدان الخصوصيات الثقافية واللغوية وهذا يجعل الانغلاق الحل الممكن لحماية الذات والهوية الثقافية، وهو شيء مشترك لدى كل الأطراف وكل واحد منها ينزع نزوعا خاصا لحماية ما يمكن حمايته وإن كانت هذه المسالة تعد نسبية بحيث لابد من مرور عناصر ثقافية بشكل لا واعي بين الجماعات, ورد في تصريح أحد المبحوثين هذا القول "لقد تكاثروا بأضعاف مضاعفة (الإشارة هنا إلى السود) أصبحت عاداتنا وتقاليدنا معرضة للزوال، لقد انكسرت عصبيتنا وصرنا شتاتا، يكفيك أن تخرجي إلى السوق وستلحظين ذلك، ستجدين 1000 أسود يتخللهم 1 أبيض، لكن هذا ليس خطأنا إنه خطأ أجدادنا، لو قاموا بخصي خماسيهم لما تناسلوا لإخراج هذا الجراد...".
قياسا على هذا المثال فإن حتى هذه التفرقة تأخذ خصوصيات الإثنيات القاطنة للمجال ففي نفس السياق نجد قصر "أسرير" الذي يضم سبع قصيرات، كل واحدة تحوي إثنية معينة، إلا أن العلاقة تبدو أقل توترا إلى حد ما، حتى أن هذا القصر يضم ملاحا لليهود مما يعني أنهم كانوا على درجة من التسامح، أي ما يمسيه ساكنة أسرير بالوقار، فعلى لسان أحد المبحوثات وهي من جماعة الشرفاء "ما يجمعنا هو الود والوقار، لقد كنا نجتمع كل سنة ونقوم بتقديم الذبيحة لمولاي عبد العزيز لتجديد العهد و ليأتينا الغيث، لكن اليوم انتشر الحسد وصارت العلاقات بين الكل محكومة بالمنفعة، أبنتي بغينا نكونوا بحال بحال ام اوقبلي، ام أورحال، أم أوكرام...".
نستشف من تصريح هذه المبحوثة أن جماعة الشرفاء تسهر على أن تظل علاقتها بالجماعات الأخرى علاقة عادية وسلمية، لكن مع اعتراف الآخرين ببركتهم و قداستهم في إشارتها على ضرورة الحفاظ على عادة تقديم الذبيحة للضريح...
لكن في حديثنا مع مبحوث آخر من جماعة (إقبلين) جاء جوابه منفعلا وغاضبا "كان المرابطين والشرفاء يستغلون سذاجتنا، نعمل ما في وسعنا لإرضائهم، نقوم بخدمتهم وهم عاشوا حياة الرغد دون شقاء، فبماذا هم أفضل منا فأغلبهم لونهم كلوننا ولهجتهم كلهجتنا، وإن كان جدهم شريفيا أو صالحا فليذهبوا إلى قبره وليطلبوا منه تلك العطايا وسيرو هل له القدرة على منحهم ذلك".
يحمل هذا الكلام رفضا نسبيا للاستمرار العلاقة التي اعتبرها (إقبلين) استغلال بمعنى أن مكانة المرابطين والشرفاء بدأت تتصدع في تمثلات الجيل الناشئ.
أما في حالة القصور التي تضم إثنية واحدة كبعض قصور الشرفاء وإقبلين والمرابطين كما هو حال قصر "تغفرت" و"قصر تايرزة" و"ايت معمر" هنا حدة الانغلاق تبدو صارخة ومعلنة حيث الوصم متبادل بشكل كبير، منع بيع الأرض للدخلاء كذلك الحرص على الزواج من نفس الجماعة حيث يتداولون فيما بينهم "تفركيت نغ" أو "تفطانت نغ" بمعنى جلدتنا إشارة هنا على اللون أو الدم، وكل واحد مختلف عنهم لونا فهو دخيل أجنبي غير مرغوب فيه، فبمجرد دخول قصرهم تترقبك أنظارهم وتساءلاتهم "ماذا يريد هذا الغريب، هذا الرحال هنا" كما أن الآباء يوصون أبناءهم "لا تدخلوا إلى بيوت الحراطين ولا تصاحبو أبناءهم، ففي حديثنا مع مبحوثة حول نسج علاقات الصداقة بينهم وبين آيت مرغاد أجابت قائلة "أمي كانت توصيني دائما بعدم مصاحبة المرغديات فهن بيضاوات وشعرهن حرير، وأنت تبدين كالقردة لن يرغب فيك احد، سيبخسن قيمتك في سوق الزواج (قدام سوتنت لعديم) سيفسدون صورتك, بخصوص قصر "كردميت" ذو ساكنة مرغادية في الغالب فيطفو على السطح إحساسهم بقوة انتمائهم ففي مقابلة لنا مع احد المبحوثين جاء قوله كالتالي " لقد كان قصرنا نقيا لكن الآن بعد أن بنينا منازل عصرية في "إنورير" فقد قدم الغرباء من كل قطب وحدب واشتروا منازلنا القديمة المهم ليس لهم سلطة علينا وعاداتنا وتقاليدنا سنضعها دائما فوق رؤوسنا".
لكن كلما اتجهنا نحو المركز نجد العلاقات أقل انغلاقا وأكثر انفتاحا وتفاعلا، فالمركز أكثر قدرة على صهر الاختلافات التي تبدو صارخة في القصر، ففي المركز تتلاشى سلطة الجماعة والعرف المتواجدة بحدة في الهوامش وفي القصور المجاورة فالعلاقات هنا لا تحكمها القرابة أو المعرفية القبلية، وإنما هي وليدة الضرورة والحاجة المشتركة للعيش، والميز تخف حدثه إلا في حالة النزاعات القصوى.
يروج الشارع الفركلي بإقليم الراشيدية والحديث اليومي بين الأفراد والجماعات لمجموعة من الأوصاف والتسميات والعبارات، عن قصد أو بدونه حيث تلك الصور والأفكار النمطية التي تحملها كل جماعية إثنية تجاه الأخرى، يتم تطبيقها وتبادلها وإن كانت أحيانا تثير استفزازات وردود فعل قوية، لأن تلك الألفاظ تعبر عن مشاعر ومواقف خفية في الأعماق واللاوعي.
من بين الأمثلة التي يمكن أن نسوقها في هذا الصدد مصطلح "اغنتور" أو "أرحال" أو "زري" وكلها أوصاف قدحية تبخيسية تشعر المقذف بها بدونية وحظيظيته، يتم تداولها بشكل كبير في أبسط نزاع أو خصام حتى بين الأطفال أثناء اللعب أو في المدرسة فكل التمثلات المسيئة للآخر، التي يمارسها الكبار تنتقل إلى الأجيال عبر التنشئة وتصبح بالتالي هابتوسا مستعدا للاشتغال بشكل تلقائي وعفوي، ويحمل عنفا رمزيا أو ربما إبادة رمزية للآخر المختلف ثقافة ولونا، وكل جماعة تمنح لنفسها حق تصنيف الآخر، وتسييد ثقافتها عليه.
في استطلاعنا الرأي المبحوثين وتجاربهم هل تعرضوا للتمييز ذات يوم في حياتهم، أجابت الأغلبية بالإيجاب، تحكي أحد المبحوثات "أتذكر لما كنا ندرس بالثانوية في حصة الرياضة ترفض المرغديات أن تلعبن في فرقتنا، لم نكن نعرف في لأول لماذا، لكن سمعتهن ذات يوم يقلن (أورنني أنلعب ديد رزي آيت أوزاما) وتعني بالعربية "لن نلعب مع الصراصير الكريهة".
يتضح من هذا الموقف الذي تعرضت له المبحوثة، أن استبعادها تم تبريره بتمثل عنصري، يرى بأن الحرطاني كائن كريه ولا يحتمل، ولكن في نفس السياق لا ننسى أن هذا الوصم متبادل بنفس الحدة ولا يسلم منه احد.
يحكي احد المرغاديين "عندما نكون في ملعب الكرة فهؤلاء يثيرون حماسة بعضهم البعض بمناداة بعضهم (يا الله أتيفر كيتنغ، يا الله أدورك رون إرحالن) هيا يا جلدتي إياك أن تكون مغلوبا".
بخصوص الحساسية المفرطة التي تثيرها هذه الألقاب فإن المرغادي يجد اعتزازه في منادته باسم قبيلته، لكن الحرطاني إن ناديته (أياقبلي) يشعر بأنك نقصت من قدره فيجيبك بالسب والشتم (ادورك تقبل الجنت).
أما ألقاب الشرفاء والمرابطين كمولاي، سدي، لالى، الشريف، فتعتبر النموذج لتفخيم وتعظيم الأفراد سواء كانوا شرفاء أو غيرهم، فكل من أردنا أن نعظم له الشأن نظيف مولاي أو سيدي إلى اسمه لأن ذلك يشعره بتميزه، وهذا يتداول بكثرة في الإدارات والمؤسسات العمومية، والشرفاء ألفوا هذه الألقاب وهذه الأسماء لدرجة إن ناديت أحدهم باسمه دون هذه الإضافة، قد لا يجيبك لأنه رافض أن يسوى بالآخرين فهو يرى نفسه مختلف ودمه شريفي من سلالة الصالحين ويجب أن يحظى بقدر من الاحترام، ففي حديثنا مع احد المبحوثات، "كانت لنا جارة من الشرفاء، وكان اسمها فاطمة فإذا رغبنا منها شيئا وناديناها فاطمة دون إضافة لالى فاطمة كانت لا تجيبنا كأنها صماء، وأحيانا تجيبنا ويبدو على وجهها التجهم"
أما جماعة آيت باعلي وحماد التي تبدو أكثر انغلاقا وتقوقعا في علاقتها بالجماعات الأخرى، فالمخيال الفركلي يحيك ضدها صورا محنطة ومقنعة في جوهرها بأن دمهم يهودي وسيظلون أحفاد اليهود "رغم أنهم أسلموا إلا أن خبث اليهود لن يتطهروا منه أبدا" هذا ما أدلى به أحد الساكنين بقصر أسرير أما المرغادي فصفة "أرحال" ستستهدفه باستمرار من طرف جميع الاثنيات الأخرى، التي توصمه بالسذاجة والهمجية والتأخر عن ركب التحضر لأنه ألف حياة الخيام والفيافي. هذه الإسقاطات ونزع القيمة متبادلة لا يسلم منها احد، الكل يمارسها والكل تمارس عليه، ما يضمن استمرارها وانتقالها.
الكاتب : | خديجة فضايل |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2015-03-26 00:11:58 |