آخر الأحداث والمستجدات
الرشوة بين الإعلام والتفسير الأحادي للفعل
خلال الأيام القليلة الماضية، عرفت مواقع "التواصل الاجتماعي" من خلال نشطائها المغاربة تداول مجموعة من "الفيديوهات" كان أبطال أحدثها رجال أمن يتلقون رشاوي من "مواطنين". وبطبيعة الحال مثل هذه المشاهد وكحال غيرها تثير الرأي العام (المتتبع للأحداث) هذا إن لم تكن توجهه، وذلك من خلال النسخ والنقل الذي تتميز به وسائل الاعلام عموما والالكتروني خاصة، وكما يقول بيير بورديو "يتم النسخ والنقل بشكل مشترك بالنظر إلى سبق الآخرين، أن نفعل ذلك قبل الآخرين، أن نفعله بشكل مختلف عن الآخرين، ثم ينتهي الأمر بأن يفعل الجميع الشيء نفسه. البحث عن السبق المثير، ذلك السبق الذي يؤدي في مجالات أخرى إلى التفرد وإلى إنتاج أعمال أصيلة، ينتهي به الأمر هنا إلى القولبة والابتذال" ( ).
إن الأحداث هي واحدة، رجال شرطة يتلقون رشوة، لكن ومن أجل أن يُظهر كل واحد لمسته يتم التغيير على مستوى العنوان فقط، وهذا قد يبدوا شيئا عاديا إذا كنا لا نمتلك حذرا سوسيولوجيا. نعم فالعنوان أو التعليق الذي يرافق الصورة أو "الفيديو" له حمولة كبرى، فهو يجعلنا نقرأ الحدث وننظر إليه من خلاله؛ بمعنى آخر إن التعليق المرافق للحدث يمارس نوعا من السلطة على المشاهد، حيث يصبح هذا الأخير يبحث عما يؤكد التعليق أو العنوان. ومن أجل إبراز ذلك دعونا نلقي نظرة على عينة من العناوين المرفقة مع "فيديوهات الرشوة" وكيف تفاعل معها المتلقي:
- العناوين: "فضيحة رشوة تهز جهاز الأمن بطانطان"، "شرطة الرشوة والصرف"، "فضيحة جديدة للشرطة المغربية الرشوة بالعلالي"، "فضيحة شرطي يتلقى رشوة"، "خطير... فضيحة كوميسير يتسلم الرشوة بالدار البيضاء"، "ويستمر مسلسل فضائح الرشوة..."
- التفاعلات/التعاليق: " احي كل من ساعد على الحد من الظاهرة التي تشوه سمعة بلدنا الحبيب"،" البوليس ديال أخر الزمان، ماشي هادو لي خاصهم الحبس ولكن الرؤساء ديالهوم المباشرين لي مخبيين في الكوميساريات كيتسناو النصيب اليومي ديالهوم من القهوات"، " لا بد للدولة أن تترك مثل هؤلاء خونة المهنة عبرة لغيرهم وعلى كل من يتجرأ بمساس سمعة البلاد..."، " شوهتو البلاد شوهتو سمعت المغرب بهدلتونا امام العالم الله ياخذ فيكوم الحق..."، " نمودج امتحان حراس الامن موضوع اللغة العربية: التحلي باخلاق حميدة صفة من الصفات التي يجب ان يتحلى بها الشرطي. حلل وناقش"، " هذا رجل عصابة لعنة الله عليه الى يوم الدين لم يحترم الشعار الذي يحمله لم يراعي لا الله ولا الوطن ولا الملك . يجب عزله وسجنه هو وأمثاله"...
بطبيعة الحال فإن هدفنا ليس جرد لكل العناوين والتعليقات قصد القيام بتقنية تحليل المضمون، بل إن هدفنا يتجلى بالأساس في تبيان كيف ينساق المتتبع وراء العنوان وكيف يصبح العنوان بمثابة خارطة توجه ذهن المتتبع بطريقة لا واعية. فمن خلال اطلاعنا على مجموعة من التعليقات لم نقف على تعليق يحاول التشخيص أو الاقتراب من عمق الأحداث، فما هي الرشوة من وجهة نظر قانونية؟ وماهي الرشوة في المتن الديني؟ (على اعتبار أن المغرب بلد إسلامي‼ وعلى اعتبار أن مجموعة كبيرة من المعلقين يستعملون الخطاب الديني في انتقاد الرشوة)
"اهتم المشرع المغربي بجريمة الرشوة، ونص عليها وعلى عقوبتها ضمن مواد 248..256 من القانون الجنائي والمواد 35..40 من ظهير 6101972. وتعرف جريمة الرشوة بأنها هي عرض من جانب وقبول من جانب آخر لأي فائدة أو منفعة كانت مقابل القيام او الامتناع عن العمل من أعمال وظيفته. وهي المنفعة التي تحصل للمرتشي «بالمبذولات أو الوعود أو العطايا أو الهدايا». أما علاقة الراشي بالمرتشي فهي مؤسسة أصلا على الرضا والمصلحة. والركن المادي لجريمة الرشوة هو الطلب أو القبول أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى مقابل العمل أو الامتناع. وجريمة الرشوة، حسب ملخص دراسات نشرت في مواقع عدة منها موقع شؤون قانونية، تقتضي وجود طرفين هما: موظف يطلب أو يقبل او يتسلم رشوة مقابل قيامه او امتناعه عن عمل من أعمال وظيفته أو الإخلال بواجباتها، وصاحب مصلحة يقدم او يعرض رشوة أو يعد بها موظفا."( )
أما الرشوة في المتن الديني: " من المقرر في أحكام الشرع الحنيف أن الرشوة من كبائر الذنوب قال تعالى: (سماعون للكذب أكَّالون للسحت). [المائدة: 41]، قال الحسن وسعيد بن جبير: هو الرشوة، وقال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) [البقرة:188]. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" [رواه الترمذي وقال حسن صحيح]، وفي رواية (والرائش) وهو الساعي بينهما. فيحرم طلب الرشوة وقبولها وبذلها، كما يحرم عمل الوسيط بين الراشي والمرتشي. وأما الرشوة التي يتوصل بها المرء إلى حقه أو لدفع ظلم أو ضرر، فإنها جائزة عند الجمهور ويكون الإثم على المرتشي دون الراشي."( )
يتضح إذن أنه ينبغي توفر طرفين حتى نكون أمام "جناية/كبيرة الرشوة"، ومقاطع "الفيديو" توضح وجود الطرفين معا، لكن المتتبع لا يلقي باللوم إلا على المتلقي الذي هو رجل الأمن‼ وهناك مفارقة ثانية تتمثل في كون السائح الأجنبي هو الوحيد الذي قدم "الرشوة" لدفع ظلم أو ضرر، بمعنى أن الأجنبي هو الوحيد الذي يمكن اعتبار أعطيته جائزة شرعا‼ أما الآخرين فهم (وعلى اعتبارهم فاعلين) قد دخلوا في عملية تفاوض مع رجال الأمن، لأنهم قد أخلوا بالقانون. إننا هنا أمام عملية تواطؤ بين الراشي والمرتشي، وسواء استعملنا وجهة نظر قانونية أو دينية فإن النتيجة ستكون واحدة ألا وهي وجود فاعلَين أخلا بالقانون، أحدهما طلب الرشوة مقابل تعطيل القانون، والآخر قدمها لأنه خرق القانون.
السؤال الذي يجب طرحه في هذا السياق (وذلك حتى نعود إلى صلب الموضوع) هو: لماذا يتم إلقاء اللوم على فاعل واحد الذي هو رجل الأمن، في حين وجود فاعلين اثنين؟ لماذا لا ينظر إلى الراشي؟
قد نجد الجواب في كون المواطن المغربي ونتيجة معاناته من البيروقراطية التي أثقلت كاهله، ومن نقص (حتى لا نقول انعدام) الثقافة القانونية، قد أضحى متقبلا لإعطاء الرشوة، حيث لا حول ولا قوة له داخل نسق فاسد. ومن هنا فإنه لا يرى فيمن يقدم الرشوة جانيا بل هو ضحية للبنية الاجتماعية وللمؤسسات الفاسدة، وهكذا نكون أمام نوع من ردود الأفعال النفسية التي تترجم في شكل تعاطف، الذي هو في نهاية التحليل عبارة عن تواطؤ‼
لكن دعونا نذهب بعيدا ونفترض افترضا؛ لنفترض أن العناوين التي جاءت على شكل: " خطير... فضيحة كوميسير يتسلم الرشوة بالدار البيضاء"، لم توضع على هذا الشكل بل جاءت كالآتي: " خطير... فضيحة مواطن يسلم وكوميسير يستلم الرشوة بالدار البيضاء"، من دون شك فإن ردود الفعل كانت ستختلف كثيرا أو قليلا، لكن المؤكد هو أننا كنا سنجد بعض المعلقين الذين سيلومون ليس فقط رجل الأمن "الفاسد"، بل المواطن "الفاسد" كذلك. فالفساد غير مرتبط بأشخاص وإنما هو مرتبط بأوضاع معينة، والرشوة هي عبارة عن استراتيجية يلجأ إليها الفاعل (من خلال منطق معين) قصد تحقيق الربح، فـ 100 درهم كرشوة خير من 700 درهم كمخالفة ستستفيد منها الدولة التي تأخذ ولا تعطي.
إننا هنا (وهذا هو جوهر المقال) أمام أزمة دولة، وأزمة مؤسسات، وبالدرجة الأولى أزمة غياب الديمقراطية، إننا أمام نوع من التوجيه الواعي أو اللاواعي للرأي العام، حيث أننا لا نناقش أوضاع الفساد وأسبابه بل نناقش أشخاصا قاموا بخرق القانون، وذلك من خلال التركيز على طرف واحد في المعادلة. وهذا هو الخطير في الأمر فلو كنا أمام متتبع واع بما يقع ولا ينجرف مع التيار، كنا سنرى (ربما) نقدا للمعادلة ككل لأن نتيجتها هي السلبية وليست الأطراف.
الكاتب : | لشهب سفيان |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2015-01-18 19:00:37 |