آخر الأحداث والمستجدات
ميلود الشيخ الكامل أو الفوضى المقدسة
ميلود، هكذا ينطقها الكثيرون، وهكذا يفضلونها بتلك الياء الزائدة والواو النازحة عن مكانها، وهو ما يجعلها بعيدة كل البعد عن معنى مناسبة مولد خير الخلق أجمعين، محمد صلى الله عليه وسلم، فذكرى المولد النبوي الشريف شيء، و"موسم الميلود" شيء آخر لا علاقة لأحدها بالآخر، ويظهر هذا طبعا عند معالجة كل واحد على حدة.
فالميلود، والذي تعتبر مدينة مكناس منذ قرون خلت، وإلى اليوم حاضنته الأولى بلا منازع من حيث الشكل والأسلوب الذي تقام فيه طقوسه، والتي لا يمكن أن يصفها كل شاهد أو عاين ما يجري هناك في خيمه، وساحاته ومراتعه وما امتد من ذلك في جنبات الطرق والممرات، إلا بالشيء الذي لا يمت بأي صلة بتاتا للاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام، من حيث المناسبة الجليلة والمقدسة في الوعي الديني للمغاربة.
والاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الثقافة المغربية، والذي قد يختلف عن باقي الثقافات الدينية عبر العالم الإسلامي، بشيء من التميز الخالص، وهو ما يظهر جليا لنا كلما حاولنا مراجعة التاريخ الديني للمملكة ومعه تاريخ مدينة مكناس، حيث نجد أن الاحتفال بالمولد لم يكن في أصله، بما نشهده الآن من كل هذه المشاهد التي تجعل من هذه المناسبة ثقلا ثقيلا على النفس، عوض أن يكون حملا لطيفا، فالمولد الذي كان يشتهر بين كل القبائل التي كانت تحج إلى مدينة مكناس عاصمة المولى إسماعيل، وهي تردد المقولة الشهيرة "الميلود يلاقيني بحبابي"، والتي تعني اجتماع الأحباب وانطلاق الأفراح بكل أشكالها وأصنافها، بدءا بذكر الله وإلى غاية التجمعات العائلية، تحولت منذ مدد طويلة إلى عالم غريب من كل أشكال الفوضى "والهمجية"، تعاني منه مدينة مكناس كلما حلت المناسبة السنوية، لكنها –وللأسف- تلبس عليه رداء المقدس، حتى لا يمسها أحد بالمنع أو يطالب أحد برفعها أو منعها.
نعم، إنها "الفوضى المقدسة"، التي تعيشها مدينة مكناس كلما جاءت ذكرى مولد النبي، التي هي في أساسها تذكير للإنسان الغافل بالرجوع للمنبع الصافي من الإنسانية والآدمية والأخلاق التي جاءت بها رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لكنها انقلبت لتصبح مناسبة تدعو للرذيلة والهمجية والجاهلية المقيتة، وعبادة الشهوات والشبهات ونتف اللحم الجلود والشعبدة والشعوذة بكل أشكالها وصنوفها، الشيء الذي جعل معه مكناس، تعرف عند الكثيرين بـ "بلاد الميلود"، وبلاد "السحور والنحور"، مختزلين ثقافتها وتاريخها وقيمتها، في أيام من اللهو القبيح وطلب الأغراض من جدران وحيطان، وقبور، الله أعلم بحال أصحابها، وحالنا أيضا، ونحن الذين لم نعرف بعد مستقرنا تحت الأرض كيف هو وكيف سيكون.
ميلود مكناس، ميلود عجيب، جمع كما قلت من أصناف القبح والفعل الغير اللائق، ما تعجز الكلمات عن وصفه، ودائما بغلاف مقدس، يجعل الجميع، يتوجس من الحديث والخوض فيه، بدعوى أن ذلك المُسلّم، له بركته التي قد تصيب كل من يجرؤ على انتقاده، فيكتفي القوم بالقولة العرفانية المجيدة "التسليم أرجال البلاد"، وهنا يقف المرء عاجزا عندما يسأل العارفين، أين هم "رجال البلاد"، إذ أنه من المعلوم، أن لكل بلد رجاله، الذين يدافعون عنه ويردون عنه كل بأس يصيبه، إلا مكناس فالظاهر أن رجالها مجرد أشباح في مخيال الناس، يجعلونها وكيلا على كل ما يحدث بدعوى "السلاك والسلام".
يحدث فعلا أن يعيش المكناسي الغيور، -وهنا أخص الغيور فقط- حالة من فوضى النفس، وهو يرى ما آلت إليه مكناس في هذه الأيام وما يليها، من جراء هذه "الفوضى المقدسة"، التي لا تترك لمكناس بعد انقضائها، سوى السمعة السيئة وذكريات من اللاحضارة، في زمان نعيشه بحضارته ورقيه المتزايد والمتسارع، بشكل يجعلنا كما لو كنا قادمين من كوكب آخر إلى هذه الكرة الأرضية، وطبعا دون أن يكلف مسؤول رفيع المستوى أو مسؤولان على الأكثر، في هذه المدينة، عناء توقيع أو أمر، يمنع بموجبه كل هذه الأشكال الغير الحضارية في مدينة كانت على مر عمرها عاصمة للحضارة، خصوصا وأن نسخا سابقة من هذا الميلود، سبق لها وأن منعت، وأظهرت بوضوح أن هذا المنع يضيف قيمة سامية للمدينة، ولا يكبدها أية خسائر أو تراجع في سلم الاقتصاديات، هذا إن كان فعلا لهذا الميلود شيء من النفع الاقتصادي للمدينة، إذ أن المستفيد الوحيد من هذا الحدث هم جماعات ما يصطلح عليهم "بشرفاء العتبة" الذين يذيعون فسادا في عقول الأتباع والطامعين في تحقيق أمانيهم، التي لو وصلها هؤلاء الشرفاء لأنفسهم، لما جلسوا هناك متربعين في أبواب الضريح، يوزعون الأماني والأدعية والتمائم بدعاوى ظاهرها التقوى والشرف، وباطنها النصب والاحتيال والاستخفاف بالعقول، وتوسيع قاعدة الجهل والاعتقاد بغير الله تعالى.
ولعل النماذج كثيرة من هذه المظاهر التي يستحيي الإنسان من ذكرها في هذا المقام الذي هو احتفال بخير نبي، لكن لا بأس أن نشير لواحدة منها، -وهذه حقيقة يمكن لأي شخص أن يستكشفها بنفسه هناك- حيث أقيمت بجانب ضريح الشيخ الكامل في مقبرة الشهداء ومنذ مدة طويلة، ما يسميها أصحاب الخرافات بـ "مرجة لالة عيشة" هذا المكان بالذات يقف عليه "شرفاء" يبيعون للنساء الطامعات في الحظ والحظوة والزواج والرقي وغيره، مياه يقال بأنها تخرجها "لالة عيشة" هناك لقضاء كل الحاجات لأصحاب الحاجات، وهناك يمكنك أن ترى ما لم تره عينك من قبل، من تعري النساء واغتسالهم بذلك الماء في العراء، وغير ذلك من المناظر التي يندى لها الجبين، باسم ذكرى المولد النبوي، والأدهى من هذا كله، أن هذه المياه التي تباع للطامعات، ما هي إلا مياه مستخرجة من قنوات الصرف الصحي (الواد الحار) الذي يمر بمحاذاة هذه المقبرة، فانظر كيف وصلت الجرأة لهذا الحد، وافهم إن كان قد بقي للفهم مساحة في هذا الذي يحدث.
حقا إن الإنسان ليتحسر عندما يشاهد ما يحدث أمام أعينه من هذه الأفعال، لكنه لا يملك في جعبته غير شيء من التساؤلات الواقعية التي ربما قد لا تغير شيئا من هذا الواقع، خصوصا لو علمنا أن كثير من هذا الذي يقع، يجري تحت غطاء أمني كبير ومنظم في المدينة، يعطي شيئا من الحماية لما يحدث بل وشيئا من الشرعية، عن قصد وربما عن غير قصد، مادام أنه أمر ضروري لتنظيم السير وحفظ الأمن. فهل يا ترى مازالت مكناس ستستقبل في القادم من السنوات مثل هذه الفوضى المقدسة، واجدة بالتالي لها مساحة كافية تسمح لها بتلطيخ سمعة المدينة عند باقي "الأمم"، أم أننا سنسمع يوما ما عن قرار جريء ومسؤول من مسؤولين عودونا على قراراتهم الباردة أو المنعدمة في هذه المدينة، وحتى وإن كان هذا القرار فعلا سيرى النور، فهل سنعرف له تصريفا معقولا يفي بالغرض، من ترك الجاهلين على جهلهم وحفظ جمالية المدينة، بأسلوب يكون وسطا، كنقل رفات الشيخ الكامل، إلى مكان بعيد بعيد جدا عن حاضرة المدينة يمكن فيه للتابعين أن يمارسوا طقوسهم بعيدا عن المدينة، ولا عجب هنا من نقل رفات الشيخ الكامل، فهذا يحدث مع أعظم الشخصيات الدينية أو غيرها لو وجد فعلا ضرر جامح يصيب العامة لأجل الخاصة، وليس رفات "باأحماد" عنا ببعيد، ... كل سنة والجميع بخير وعلى خير، ومكناس خير من هذه الحال.
الكاتب : | المهدي حميش |
المصدر : | م.ص:علي زيان |
التاريخ : | 2015-01-05 16:20:46 |