آخر الأحداث والمستجدات
عاشوراء المكناسية
أحكي لكم يا أصدقائي الصغار حكاية جدتي ذات المائة والخمسة من عمرها ،لملمت جدتي القول بالحمد والشكر على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ووحدت الله وهي رافعة ذراعيها الى السماء ،حتى اعتقدت أنها انخرطت في أداء الصلاة ، نظرت الي بابتسامة حنونة وفمها لا يحمل أي سن ،ثم خاطبتني بصوت رخيم ،ويدها تربث على شعري ،ما تريد مني يا علي؟
تيقنت أن اليوم هو يوم سعدي مع جدتي والتي طلقت الكلام المطنب منذ مدة بعيدة من الزمان ،
فقلت جدتي مدينتنا مكناس تقيم حفل "بابا عيشور" فأحببت أن تقصي علي كيف كان يمر الاحتفال بيوم عاشوراء عندما كنت صغيرة ؟
تنهدت جدتي حتى أيقنت أني سحبتها من الزمن الحاضر الى الماضي ،ونظرت الي قائلة :
-أي علي حفيدي العزيز، منذ الزمن البعيد ، أي عندما كنت صغيرة بعمرك سمعنا وأعجبنا بما يروى الينا من حكايات عن ذكرى عاشوراء ، ومارسنا طقوسها بكل طفولية وسذاجة صغيرة بحواري المدينة القديمة والزيتون والروى...،
اسمع حفيدي اولا ، اسم مدينة مكناس مكون من شقين الاول "مكة "و الثاني "ناس" وهذا لطيب خلق أهلها وكرم ساكنتها وأمان موطنها ، و كانت مدينة مكناس عبارة عن بساتين و وحقول زيتون وعراصي ، سكانها خليط من أمازيغ وعرب اعتنقوا الاسلام وعملوا بتعاليمه بكل أريحية ، ومع المولاي اسماعيل السلطان العلوي تجذرت العادات المحلية مع مكونات التقاليد الاسلامية الوافدة من المشرق العربي بالعادات الاجتماعية للحاضرةالمكناسية .
ولكن كيف يتم ذلك يا جدتي؟
لا تستعجل الأمر يا حفيدي العزيز ،المهم أن أولى الاستعدادات تبدأ منذ ذبح (حولي )خروف العيد ،فكان الأطفال الذكور يحتفظون بقرون الخروف لصنع "الجميلة " أما الاناث فيختارون من بقايا الخروف ما يسد نهمهم الطفولي في اللعب وهو الجلد لصنع "التعريجة"و "البندير"...
وأثناء الحديث دخلت أخت علي، تاعاشوريت فنط علي من مكانه صائحا !!
-هل أختي تاعاشوريت هي عاشوراء ؟
-ضحكت الجدة بكل ما تبقى لديها من قوة ،وأجلستها على يمينها ،ثم قالت:
اسم أختك "تاعاشوريت" جاء تيمنا بميلادها يوم عاشوراء (10 محرم ) لذا قرر أبوك تسميها بهذا الاسم تيمنا وتبركا بذكرى عاشوراء ،أما الاحتفاء بيوم عاشوراء فهو موروث ثقافي وافد على المملكة المغربية ،تم تغليفه بالتقاليد المحلية .وقد اختلفت المرجعيات التاريخية يا حفيدي حول الاسباب التي دعت الى تخليد هذه الذكرى ومما ورد عن هذا اليوم كونه اليوم الذي تاب الله فيه على سيدتا ادم بعد الاكل من الشجرة ،وهو اليوم نفسه الذي جعل الله عز وجل سفينة سيدنا نوح ترسو على جبل الجودي،وهو اليوم الذي روى التاريخ التقاء سيدنا يعقوب بولده سيدنا يوسف بمصر،وفيه بالذات تم انقاد سيدنا ابراهيم من النمرود ، ونفس اليوم تمت فيه عملية شق البحر ونجاة سيدتا موسى وبني اسرائيل وغرق فرعون ومن معه ، وفيه كذلك تم غفران الله على نبيه داود،وفيه وهب الله سليمان ملكا لم يسبق لأحد قبله وبعده ،وفيه لفظ الحوت سيدنا يونس من بطنه،كما أن فيه تم رفع البلاء على سيدنا أيوب،ولكل هذه الاخبار مرجعيتها الدينية الخاصة بها . أما المشهور لدينا بالمغرب والراجح فيه ،هو احياء ذكرى مقتل حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي في كربلاء بالعراق وبداية التاريخ الدموي بالعالم الاسلامي .
من هنا أذكركم يا أحفادي بالمتناقضات التي وردت في هذه الذكرى من حيث تلازم كل من (الفرح /الحزن) ، و(الماء – التزمزيمة/ والنار- شعايلة - )، و(العبادة – الصوم /الزكاة - والشعوذة –البخور / السحر) .لكن بالمغرب تحيى ذكرى عاشوراء بالبهجة والفرح الطفولي...
أما تاريخ الشروع بتخليد هذه الذكرى بمحلة مكناس ، فهناك من أرجعها الى عالميتها بالاحتفال بها ...، وما يجب التأكيد عليه ففي المغرب تشابكت خيوط كبة عاشوراء عند نسجها وأعطتنا عاشوراء المغربية مع تميز كل حاضرة عن اخرى في طقوس احياء ليلة عاشوراء.
ارتبطت "تاعاشوريت "بالحوار واندمجت معه سلوكيا وهي تسأل جدتها؟
-جدتي...جدتي..بما كانت البنات تحتفلن بذكرى عاشوراء؟
-لا تستعجلين الأمر حفيدتي ،فبعد تحضير اليات العزف من "تعريجة" و"بندير" تكون (المقدمة )أي لجنةالاشراف بلغتكم الحالية ،وهي التي تقوم بترتيب جميع مجالات احياء الليلة وتتمتع بسلطة مطلقة من أحكام منفذة من طرف الرجال " هذا عاشور ماعلينا الاحكام الالة سيد الميلود تيحكموا الرجال الالة"
اذن احفادي الاعزاء التحضيرات الأولية تنطلق عند حلول هلال شهر محرم . يحدد مكان الاحتفال وعادة ما يكون عند منزل أحد شرفاء المنطقة وخاصة" دارالشرفة العلويين" لنسبهم الشريف ومحافظتهم التامة على الموروث الثقافي المغربي بأصالته.
قبل يوم عاشوراء بيوم ترتدي البنات لباسهن التقليدي ثم تقمن بعملية "الجولة " أي القيام بعملية الغناء والعزف على الالات التقليدية والهدف من العملية اشعار الساكنة ببدء الاحتفال بيوم عاشوراء ثم جمع "الكديدية " وهي قطعة لحم ميبسة من العيد ،والغاية من ذلك تحضير الكسكس بها مع سبع خضاري يوم عاشوراء . اذا احفادي انظروا الى العملية فهي تنتقل من ما هو احتفالي الى العلاقات الاجتماعية الموسعة التضامن، التآخي،الى صلة الوصل والارحام ، فضلاعن مجموعة من السلوكات المدنية ،ولابد أن تعلموا أن المنازل والمساكن بقلتها كانت معظمها متباعدة.
بعد انهاء عملية الجولة تقدم "المقدمة" اللحم المقدد وغالبا ما تكون "الديالة" الى طباخة ماهرة بالحي والتي غالبا ما كان يطلق عليها لقب "دادة".
-علي : والأطفال ما هو دورهم في الاحتفاء بعاشوراء ؟
نظرت الجدة اليه وهي تستجمع ذكرياتها ،أتذكر أن الأطفال كانوا يقومون بجمع عظام "الحولي" خروف العيد مكونين رجلا يطلق عليه اسم" بابا عيشور" وبعد الانتهاء من مراسيم الاحتفال يقومون بعملية الدفن له بطقوس تعيد ذكرى مقتل الحسين ابن سيدنا علي،لكن هذه العملية غير معممة على مناطق مدينة مكناس وإنما كانت مركزة في مناطق حضرية بعينها والان تم تجاوزها بالبتة ، وحتى لا أنسى فهم من يقوم بجمع الحطب لإشعال " شعالة " عاشوراء .
-وبنفس حب الاطلاع تم وضع السؤال التالي على الجدة ،حول موعد "شعالة"
نظرت الجدة الى الاعلى وكأنها ترشدنا أن كلما كانت "شعالة " عالية اللهيب في السماء كلما كان الحفل بهيجا ،وقالت تقام شعلة ضخمة عشية التاسع من محرم،حيث يحوم حولها الأطفال أما الكبار فهم مبتهجون بلعب الصغار ،فيما الشابات ينشدن ويعزفن ويرددن مقاطع مثل "عيشوري عيشوري وعليك تلقت شعوري "و "هذا عاشور ما علينا الحكام الالة سيد الميلود تيحكموا الرجال الالة " و " كديدة كديدة منشورة على العواد هذا بابا عيشور جا ي يصيلي وداه الواد " ثم يقوم الأطفال بالوثب فوق "شعايلة" بخفة وسرعة مما يشد انتباه الجميع ،والأمهات يصلين على النبي (صلى الله عليه وسلم ) والزغاريد تؤنس المكان ،و بعد أن تخمد نار"شعايلة" يتم اطلاق بخور الليلة من مسك وعود... وتختتم الليلة بعشاء جماعي والذي أعدته السيدة "دادة " الطباخة الماهرة،وهذه العملية تتم تحت اشراف "المقدمة " والتي تصنف الحضور حسب السن والجنس.
سكتت الجدة وأسندت رأسها على وسادة عالية ،لكن النهم المعرفي لأحفادها لم ينته وانتصبوا قياما محركين الجدة بخفة ومقبلين رأسها مطالبين اياها بإكمال الحكاية ،وحين أحست الجدة بإلحاح أحفادها لم تخيب لهم مطلبهم ودعتهم الى استفسارها عما يريدون معرفته بترو.
هنا تدخل علي وسأل جدته،عن مراسيم احتفالات يوم عاشوراء "أي العاشر من محرم"
أولا احفادي أنبهكم الى بعض العادات الدخيلة في هذا اليوم وهو التراشق بالبيض في حين أن هذه العملية ليس لها أية مرجعية ضمن العادات والتقاليد المكناسية ،فالطقوس التي كانت تمارس في هذا اليوم هو الرش بالماء القليل ( تزمزيمة) نسبة الى كرامة ماء زمزم بمكة والذي هو اسم مدينة مكناس مرتبط بها كما سبق لي ذكره.
-تدخلت تاعاشوريت وسألت جدتها عن الرش بالماء.
تنهدت الجدة تنهيدة عميقة مؤكدة أن مرجعية هذه العملية لها جذورها التاريخية حيث حينما اعتقل الحسين ابن علي ، ترك بدون أكل ولا شرب لبضعة أيام ، وعند اقتياده لإعدامه بقطع رأسه وسط حشود من الناس ، وهم من مناصريه أحسوا بضما سيدنا الحسين وخوفا من بطش الجنود بهم بدأ الناس يتراشون بالماء وخاصة تجاه سيدنا الحسين مما جعله يلتقط شيئا من الماء ويروي عطشه ،فالعملية هي حيلة حينذاك وبقيت الى يومنا هذا.
-اغرورقت عينا علي بالدموع أما تاعاشوريت فوضعت يديها فوق خدها من هول المأساة ،لكن الجدة أحست بالموقف فأخرجت لعبتين من صندوق بجانبها وأمدت كل واحد بلعبة مما ذوب جليد الموقف من الحزن الى الفرح ،ثم أردفت القول بأن من تلك اللحظة أصبحت العادة امداد الاطفال بلعب للتسلية.
انشغل كل طفل بلعبته والفرحة تبدو على محياهما ،حين ذاك انشغلت الجدة بتحريك "التسبيح" الذي بيدها وعيناها لا تفارق احفادها.
-صاح علي وما عن عمل الكبار في هذا اليوم؟
أجابت الجدة بعد انتهائها من التسبيح،قائلة الكبار في هذا اليوم لهم طقوسهم الخاصة.
فالرجال في هذا اليوم يتركون هامشا من الحرية للنساء ،فبعد الفطور، والتي وجبته الاساسية الفاكهة والحريرة وأنواع متنوعة من الملوي و... فهم ينتقلون نحو أعمالهم لكنهم لا ينسون اخراج الزكاة للفقراء وإشراكهم في فرحة الذكرى ، وهذا مرتبط أساسا بنماء المال عند اخراج الزكاة عليه.
النسوة في هذا اليوم يتركن الاشغال المنزلية من كنس وتنظيف (لا مكنسة ولا تجفاف ) كمعتقد أساسه أنه اذا قامت المرأة بتلك الاشغال س"تزكي الشغل" أي سيتضاعف عندها الاشغال المنزلية طيلة السنة ،ومع اعتقاد أن الكنس بالمكنسة يذهب الرزق في ذلك اليوم...وهذا في بعض المناطق المكناسية خاصة الدور التي ترتبط بدار "المخزن " .أما بعض النسوة فترتدين ملابسهن داخلها هو خارجها "اي بالمقلوب",وهذه العملية ترمز الى الحزن على مقتل سيدنا الحسين وهي صورة لم تعد تذكر في عادات عاشوراء اساسا بمكناس...
اما البنات فيستمتعن بالغناء والرقص وتخضيب الأيادي بالحناء بأحد زوايا المنزل والتي كانت معظمها مرتبطة بحديقة غناء (الرياض).
-وبعد ان استوعب علي مغزى كل عملية سأل جدته: وماذا عن بابا عيشور؟
تلقت الجدة السؤال وهي في قرارة نفسها أن حفيدها قد بنى تسلسلا منطقيا لتراتبية الاحتفالات بعاشورء وبعض المرجعيات التاريخية والعادات التقليدية لها بالحاضرة الاسماعيلية.
هذه التسمية يا علي ، هي تسمية مغربية ترمز أولا الى يوم عاشوراء ثم الى شخصية تتسم بالصلاح والتقوى وإجماع الساكنة عليها بلعبها دور "بابا عيشور"،
فبابا عيشور يرتدي لباسا تقليديا يعبرعلى المنطقة التي يتواجد بها ،ويتحرك بأناة ، والأطفال والبنات يتحلقون حوله باستعراض بهيج ومنظم، يطوف على جميع أرجاء الحي والأناشيد الدينية تصاحبه والموسيقى الشعبية تواكب الحدث. ومن العادات المترسخة عند وصوله لأي عتبة بيت يرشه الاطفال بقليل من الماء (التزمزيمة )،أما هو فيحتفى بهم بالحلوى ، والهدايا حسب الامكانات المتوفرة لديه.
ومن العادات الأولية لهذا اليوم دور "الشرفة" أو "دار المخزن" حيث يتوقف موكب بابا عيشورعند كل منزل برقصة عيساوية ،وتهاليل دينية اصيلة .
-تبدو الفرحة على وجه تاعاشوريت وهي التي ارتبط اسمها بيوم عاشوراء ،ثم تسأل جدتها عن المغزى من الاحتفال بذكرى عاشوراء عند المكناسيين والمغاربة بصفة عامة.
هنا شعرت الجدة بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها في نقل عادات وطقوس اجتماعية عامتها شفهية الى احفادها.
-فأجابت الجدة ان الاحتفال أولا هو لتخليد ذكرى وتقاليد تضاربت الاراء حول مرجعيتها الاولية ، ولكن الأهم هو أخذ العبرة من تجنب القتل ونبد العنف العرقي والمذهبي ، وتحقيق المناصفة ،والعدل ،والحرية في ممارسة الفعل الايجابي بسلوكياته المدنية ،وكذلك هي تخليد للتسامح الديني والاجتماعي ،والأهم من ذلك هو ترويح نفسي للمجتمع وخلق مواقف تتسم بنقل المأثورالشفهي من الماضي الى الحاضر بتجلياته الاجتماعية حتى لا تكون هناك قطيعة في بناء القيم الحضارية للمجتمع المغربي ذي الامتداد التاريخي البارز....
-علي : جدتي، حدثينا عن بعض طقوس عاشوراء فيما يهم الممنوع والمباح .
تختلف الاراء فيه وتتشعب الأفكار، أعزائي الصغار فيما نقل الينا ، هناك أشياء تباح ممارستها في عاشوراء وأخرى ممنوعة . ومن العادات الممنوعة بالعرف السلبي لذكرى عاشوراء ، والتي هي براء من هذه العادات:
1-هناك من يمنع ايقاظ النار يوم عاشوراء،
2-عدم ذكر اسم المكنسة " الشطابة " عند بعض الاسر صباح يوم عاشوراء،اقتداء بالمثل المغربي "الشطابا عروسة والجفافة انفيسة" للدلالة على تعطيل العمل بهما يوم عاشوراء،
3-الملح لا ينبغي أن يسلف أو يعطى ،والمقصود منه عند بعض المغاربة زوال جمال البنت غير المتزوجة عندهم ،
4- هناك من الجهل من يعتبر يوم عاشوراء يوم للشعوذة والسحر .
ومن الأشياء المباحة والتي أساسها الاثر الايجابي السلوكي :
1-التزاور يوم عاشوراء،
2-ادخال الفرحة على الاطفال وخاصة الاطفال اليتامى وذوي الاحتياجات الخاصة ،
3-اسماع المرأة لصوتها بكل حرية وهي حالة مقاربة النوع والمناصفة،
4- التضامن والتآخي بين الأسر "الزكاة "و " الصدقة ".
وبعد أن سمعت الجدة اذان صلاة المغرب طلبت من حفيديها الانصراف ،فلم يكن منهم إلا الارتماء في حضنها شاكرين لها سعة صدرها لهم بالحكي عن ذكرى عاشوراء بحاضرة مكناسة الزيتونة.
الكاتب : | محسن الاكرمين |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2014-11-05 07:40:21 |