آخر الأحداث والمستجدات
ليلة السابع والعشرين من رمضان عند المغاربة
يحتفل المغاربة منذ عقود بليلة السابع والعشرين من رمضان، اعتقادا منهم بأنها ليلة القدر حسب اجتهادات الفقهاء والعلماء والمحدثين المالكيين، رغم أن وقتها بالذات غير محدد أو معلن تشجيعا وترغيبا للمسلمين في العمل المضاعف من الطاعات والعبادات في العشر الأواخر من رمضان، لما لهذه العشر من فضل وأجر في الشريعة الإسلامية، والقيمة التي كان يوليها الرسول صلى الله عليه وسلم لها، حيث كان يوقظ أهله ويشد مئزره ويعتكف في المساجد، كما أن قيمة الأيام العشر، سواء الأيام الأولى من ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان تجد دلالاتها وعمق تجدرها في التمثل الاجتماعي والثقافي وهذا ما يؤكده الخطاب الشفهي في تبادل التهاني بقول "عواشر مبروكة" نسبة إلى الأيام العشر.
إذا كان ما ذكرناه سالفا ينجلي معه الشك لعلو مقياس التقديس والتعظيم للأيام العشر بما أوجب ذلك الشرع وأقره، فكيف يحتفي المغاربة بهذه الأيام وما العمق الثقافي والديني الذي تكتسيه ليلة السابع والعشرين(الفضيلة) من كل رمضان؟
"ها البخور، ها الجاوي، ها صالبان، ها المسك ها العنبر..." عندما تقترب هذه الليلة تجد أن المحلات التجارية اغرورقت بطبخات المقدس ولا تسمع أنذاك سوى تلك العبارات السحرية التي تقحمك في عالم من الروحانيات، وليس غريب على المغاربة اقتناء هذه الطبخات أو الوصفات الروحية ما دامت قد اختلطت بعمقهم الثقافي في أساطير الجن و"الارياح" و"الشوافة" والسحر...، فـ"البخور" كان ولا زال تلك الوصافة السحرية التي تطرد العين والسحر، فتجده في طقوس الفرح والحزن، الزواج والجنائز بل حتى لمن أراد الحصول على وظيفة ..." وجدو الجمر والبخور وبخروا الدار كاملة وحتى الزقاق، وجدو الحنة... هذا ما يقع وسيقع اليوم في كثير من مناطق المغرب ونحن مقبلين على ليلة السابع والعشرين من رمضان، إنه يوم عيد، إنه يوم التسامح وإفشاء السلام الذي قد يغيب في الأيام العادية لكنه يحضر في "العواشر" بقوة إلى حد العناق و "الربعة" كما هو عند أهل الجنوب الشرقي الجرف نموذجا" . وي كأن جدارا يمنع الحميمية وإفشاء السلام في باقي الأيام.
إن هذا اليوم لا ينساه الأطفال أبدا، كيف ينسونه وهم يحملون فوق "العمارية" في الخيم المنصوبة هنا وهناك، كيف ينسونه وهم عرائس وعرسان يلوحون بأيدهم في السماء يطيرون من شدة الفرح والاندهاش لما يقع حولهم رغم أنهم قد لا يفهمون شيئا، إنها وكما عبرنا في مقال سابق تنشئة على الزواج تتكلل بواقع العزوف عنه اليوم . في سياق آخر يأخذ الطبخ هو الآخر حصته الثقافية، حيث تخصص لهذه الليلة مأكولات خاصة كما هو الحال في منطقتنا " كسكسوا بسبع خضاري".
لا شك أن لهذا كله قيمته الثقافية والإنسانية لدى المغاربة، لما يحملونه من معتقدات وقيم، تربوا ونشئوا عليها وقلدوا البعض منها، فأصبحت جزءا لا يتجزأ من كيانهم الثقافي. لكن ذلك لا يمنع من القول بضرورة تصحيح المسار الثقافي وجعله ملائما لما جاء به الإسلام من مقاصد في العبادات.
لقد شرع الإسلام الصيام في شهر رمضان لما له من مقاصد وفوائد روحية واجتماعية وصحية، فهو يعود على الصبر ويقوي عليه،ويعلم ضبط النفس، ويوجد في النفس ملكة التقوى، والصوم يعود الأمة النظام والاتحاد، وحب العدل والمساواة ويكون في المؤمنين عاطفة الرحمة وخلق الإحسان كما يصون المجتمع من الشرور والمفاسد، والصيام أيضا مطهر للأمعاء ومنظف للبدن من الفضلات والرواسب، ومخفف من وطأة السمن وثقل البطن بالشحم وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم"صوموا تصحوا"[1]. وحري بالذكر القول بأن ليلة القدر لم تحدد بالضبط في ليلة السابع والعشرين من رمضان، بل يجب تحريها في العشر الأواخر من رمضان ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان»[2]، وعن عبد الله بن أنيس أنه قال: «يا رسول الله، أخبرني في أي ليلة تبتغى فيها ليلة القدر. فقال: "لولا أن يترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك"»[3].
وذكر تعالى أن هذه الليلة ليلة مباركة تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العام، وذلك في قوله تعالى " إنَّا أنْزَلنَاهُ فِي ليْلةٍ مُبَاركةٍ إنَّا كنَّا مُنْذرينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْر حَكيم* أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين*رحمة من ربك إنه هو السميع العليم" الدخان:3-6. وسبب تسميتها بليلة القدر قال النووي: "وسميت ليلة القدر، أي ليلة الحكم والفصل". وهذا هو الصحيح المشهور. والعمل الصالح فيها مضاعف وفيها ساعة يستجاب الدعاء فيها لذلك كان النبي صلى الله علية وسلم يحرص على الاعتكاف ويكثر من التعبد في العشر الآواخر من رمضان قال تعالى "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" العبادة في هذه الليلة خير من عبادة ألف شهر يعني ثلاثة وثمانين سنة و أربعة أشهرتقريباً، فيها يغفر ما تقدم من الذنوب . والحكمة من اخفاءها كما قال ابن الجوزي: أن يتحقق اجتهاد الطالب،كما أخفيت ساعة الليل، وساعة الجمعة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره، كان يسهر ليله، ويحمل كله، فيشد مئزره ويقوم الليل كله[4].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحيي ليلة القدر بقيامها فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. وقيامها : إنما هو إحياءها بالتهجد فيها والصلاة.وقد أمر عليه السلام عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالدعاء أيضا.. وقد قال الشعبي في ليلة القدر : ليلها كنهارها، وهو ما ذهب إليه الشافعي في قوله: استحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها، وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره والله أعلم[5].
إن المستحب في ليلة القدر هو الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات، بقول هذا الدعاء المأثور" اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عني" لما رواه الإمام أحمد أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فبم أدعوا؟قال:"قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عني"[6](رواه أحمد وأهل السنن، وقال الترمذي:حسن صحيح). وقال إبن رجب:" وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر، لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا، ولا حالا، ولا مقالا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر).وقال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو[7].
خاتمة:
هكذا إذن فإن مدعاة أخذ العبادات بمقاصدها وعمق تجلياتها هو المدخل الرئيس والأساس لعبادة الله حق عبادته، مصداقا لقوله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" أم غير ذلك من الطقوس والعادات التي لا تصح من الدين في شيء يجب القطع معها من أجل ترشيد التدين، ولنا في الشريعة الإسلامية ما هو جامع ومانع، كما يجب ترشيد ثقافتنا وعاداتنا بما يوافق الكتاب والسنة .فاللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عنا".
عبدالعالي الصغيري
25 رمضان 1434/04غشت2013
________________________________________
[1] أبوا بكر جابر الجزائري، منهاج المسلم،الطبعة الأولى،مطبعة إيدسوفت،1425هـ/2005م.ص198،199.
[2] رواه البخاري في صحيحه عن عائشة بنت أبي بكر ، رقم: 2020
[3] كتاب ليلة القدر، ص49.
[4] التبصرة:6/104.
[5] لطائف المعارف:ص277-278
[6] تفسير ابن كثير
[7] القسم العلمي بمدار الوطن، ليلة القدر خير من ألف شهر، دار الوطن للنشر، ص15.
الكاتب : | عبد العالي الصغيري |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2014-07-25 00:58:06 |