آخر الأحداث والمستجدات 

العصي والأسلحة البيضاء.. أدوات العوم في مسبح "السلم" بمكناس

العصي والأسلحة البيضاء.. أدوات العوم في مسبح

"حرارة مفرطة هاذي الله يرحمنا يوم القيامة وخلاص" هكذا هي الأدعية خلال رمضان بالبيوت وشوارع مدينة مكناس بعدما اشتد القهر والحر، وكتم الأنفاس وشل كل الحركات طيلة النهار.

الهدية الملغومة
بداخل السيارة الحديثة القادمة من فرنسا كانت لوحتها الإلكترونية تسجل رقم 52 درجة حرارية بفارق 8 درجات عن نشرة دار البريهي، "ربما لم تعرف المسكينة حرارة مرتفعة مثل هاذي في دول الغرب؟" يجيبنا صديقي أحمد صاحب السيارة القادم إلى مدينة مكناس من صفوف الجالية المغربية بفرنسا.
يواصل أحمد، هل تقبل مني دعوة لزيارة مكان تعرف فيه درجة الحرارة أقل من الثلاثين؟ بدون تفكير قبلت الدعوة، وشكرت صديقي الذي قدم أحسن ما يمكن أن يقدم وسط النهار، في حدود عقارب متوقفة تسجل باستمرار أنها الساعة الواحدة بعد منتصف النهار.
أين تحديدا؟ أسيما ولا مرجان إن شاء الله؟ قبلت بدون تردد قبل أن يحسم زميلي أحمد الأمر، واش صدقتيني راه غنمشيو إلى المسبح العمومي؟ طبعا لا أريد المسبح البلدي تفاديا للازدحام؟ لا هذا مسبح ستحكم عليه بنفسك؟ يتواصل الحوار داخل رحمة مكيف هواء سيارة الفرنسيين.
بالقرب من فندق خمس نجوم
ركبنا السيارة وأسئلتي تزداد عن وجهتنا وصديقي أحمد يشوقني بأجوبته المختصرة التي تحمل إشارات إيجابية، هذا مسبح ثمنه متوسط يقع وسط المدينة يحيطه من اليمين فندق من خمس نجوم ومن يساره فضاء طبيعي خلاب، ومن أمامه مطار مدينة مكناس العسكري ومن وراءه حي قصبة "أكدال التاريخية"، وغيرها من العلامات التي تزيدك شوقا لبلوغ هذا الفضاء بأقصى سرعة بحثا عن منقذ من حرارة شمس يعتقد الجميع أنها تزاور سطوح بيوت مدينة مكناس بعدما انخفض علوها على المعتاد في سماء هذه المدينة.
وأخيرا وصلنا، علامات الفضاء كلها رائعة زادتها لوحة اسم المسبح، إنه مسبح "السلم" تأسس في المدينة بداية تسعينيات القرن الماضي
اقتربنا إلى شباك التذاكر صديقي أحمد ملح على إكرامي بالكامل نقلا وتذكرة، لكن فضول الصحافي بداخلي دفعني بإصرار ولم يهدأ لي بال حتى أدركت ثمن تذكرة الدخول، 10 دراهم صغارا وكبارا الثمن مناسب لتبدأ الأسئلة في التناسل.
صديقي أحمد يضحك خفية وكأنه يخبأ مفاجأة بدأت تتجلى معالمها مع الثمن، غير اصبر اليوم مليء بالمفاجئات صديقي العزيز عبدالقادر؟.
"الكريساج" وسط المسبح
وماهي إلا خطوات قليلة على مدخل المسبح حتى سلكنا ممرا صدءا به بقايا متلاشيات، على يمينه مراحيض وسخة مكسورة الأبواب، وعلى يساره مستودعات للملابس بدون طلاء وبدون أبواب، عليها علامات التعنيف، حتى قوة الحيطان وزليجها لم يسلم من التكسير، أثار الحروب القبلية بادية على المكان.
في منتصف الممر وجدنا طاولة بلاستيكية بيضاء اقترب لونها من البني بسبب الأوساخ، يتجمع حولها أربعة رجال شداد غلاظ، ضمنهم من علامات السجن منقوشة على عضلاته، أوشام وجروح قديمة يقطعوا خطواتنا بالأمر التالي: حطو درهمين ديال النظافة لكل فرد على الطاولة قبل المرور؟، بدون تردد وضعنا المطلوب وزيادة، وعبرنا بسلام إلى باحة المسبح، سألت صديقي هل من حقهم قانونيا أن يسلبونا هكذا، أجابني أحمد، أين القانون في هاذ البلاد وبالأحرى إذا دخلت مملكة الغاب القوي يأكل الضعيف هنا، هذا "كريساج" بعلم البلدية لفائدة نزوات هذه العصابات".
على اليمين مسبح كبير يطلق عليه اسم "السانكيام" وعلى اليسار مسبحان واحد يسمى "التروازيام" وآخر خاص بالأطفال، وفي الضفة الأخرى مكان مخصص للغطس مقفل وممنوع الاقتراب منه أو حتى الاستظلال بظله.
قبائل وشعوب الأحياء الهامشية
أول ما يتبادر إلى انتباهك وأنت تقترب من فضاء السباحة أن عملية السباحة تتم جماعة جماعة، وبأسلوب لا يخفي نوعا من إظهار العضلات وإظهار قوة مكان الانتماء، فهنا التفاخر بالانتماء إلى الحي الهامشي الأكثر جرائم بالمدينة أمر ضروري، فهؤلاء ولاد سيدي بابا يتباهون بالإنتماء لحي مروجي المخدرات والآخرون ولاد البرج رمز المجرم "مجينينة" وأولئك أولاد سيدي عمر رمز الخطورة والقوة.
صراع القوة بين شباب هذه الأحياء إحدى السمات الضرورية داخل المسبح، ولا يهدأ من حدتها سوى معلمو السباحة أو إن صح التعبير "فيدورات" المسبح المنتقين بعناية دقيقة لهذه المهمات، حيث الخبرة في مجال السباحة والإنقاذ آخر ما يطلب، فهنا شرط قوة العضلات، ونهج السيرة المفضل للتوظيف المباشر هو كم سنة قضاها المرشح في السجن؟ وما طبيعة الجرائم التي ارتكبها؟ وما هي سوابقه في "التحياح" وكم من "حومة" سبق له أن أفرغها من سكانها؟ هذه هي شروط اختيار هؤلاء المعلمين.
عصي سب وشتم
هنا السب والشتم بكل قاموس الكلام النابي لا يبارح الفضاء رغم أجواء الشهر الفضيل، يقول عمر 34 سنة جاء إلى المسبح هربا بابنه الصغير من الحرارة "إنها لغة التواصل العادية مع الشباب وتكون دائما مرفوقة بشارات العصي والأسلحة البيضاء وهي ميكانيزمات لابد منها لإخماد الاحتكاكات التي تقع هنا وهناك".
على يميننا كان "با إدريس" 59 سنة يتحسر "مع كامل الأسف الفضاء كان رائعا خلال السنوات الأولى لكن تدبيره العشوائي من طرف البلدية حوله تدريجيا حتى صار سجنا صغيرا حيث نفس السلوكات والممارسات داخل سجون المغرب الأمر الذي جعل من زبناء هذا الفضاء الواسع يتناقصون تدريجيا لفائدة هؤلاء الشمكارة".
يواصل بادريس بأسى وقلق بالغين "إحمد الله أن هذه الحروب قليلة جدا واستثنائية بسبب أجواء الشهر الفضيل أما وحالة باقي أيام الصيف خارج رمضان حيث الحروب الحقيقية بكل أنواع الأسلحة البيضاء والتي يزيد من نارها وجود الفتيات".
على أجواء هذه الحسرات غادرنا المسبح نحو موقف السيارات، وجدنا حارس السيارات بـ"جيله" البلاستيكي الأحمر في عز الصيف، وبوجهه العبوس والمثخن بجراح الزمن وبسواعده المفتولة وبعضلاته المخطوطة بآثار جروح السكين، مكنه صديقي أحمد من قطعة نقدية من فئة عشر دراهم تفوق كل لائحة أسعار المرائب العمومية، تبسم في وجهنا وودعنا رحلة سباحة انتهت بسلام داخل عالم مسبح "السلم" الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود جديد.

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : عبد القادر اليحياوي
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2012-08-18 00:26:34

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك