آخر الأحداث والمستجدات 

المثقف بين الحضور و الغياب

المثقف بين الحضور و الغياب

كثيرة هي الثورات التي ارتبطت عضويا بإسهامات المفكرين و المثقفين و الفلاسفة، و لنا في إنجلترا و فرنسا خير مثال يشهد على تجارب إنسانية للأمم الحية، حيث لا نهضة بدون فكر حر ومناخ يتسع لكل الآراء. فالمثقف يُثير التساؤلات و يبعث الحياة من جديد في أشياء قد تظهر بسيطة لأناس عاديين لكنها، من موقعه هو، تظهر عكس ما هي عليه حيث يعمل على ملامسة بواطن الأمور وخفاياها و يقود المجتمع نحو الوعي .

لقد كان الفضاء العمومي فرصة لبلورة الآراء التي تقوم على الانتقاد والتعبير عن مواقف مختلف الفئات الاجتماعية، و الذي يسمح لها بعرض مشاكلها و هواجسها و من تم البحث عن الحلول، انطلاقا من جو شفاف و واضح، وقد سعى مفكرون كثر أمثال "هابرماس" إلى عقلنة العالم المعيش وتحريره استنادا إلى مشروع حداثي حقيقي. إذ يعتبر الفضاء العمومي شرطا أساسيا للاندماج الديمقراطي و بالتالي تجاوز السلطة التحكمية التي تكبح كل تطور من طرف النسق السائد.

ففضاؤنا العمومي المعاصر أصبح خاضعا بكل المقاييس لوسائل الإعلام و الصورة التي تلعب فيه دورا مهما و من و رائها قوى و جهات تعمل على استعماره و ربما تمييعه حتى أصبح مبتذلا في كثير من الأحيان. فبدل السمو بالقضايا الجوهرية و فتح نقاش رصين حولها وإخضاعها للعلمية وإشراك كل الفاعلين، تتأرجح القضايا بين تبخيس الخطاب و تسييسه وهكذا تضيع الفرصة تلو الأخرى حد الإسفاف و لا يتم استثمارها حتى وصلنا إلى مسخ فكري معتقدين أننا نمارس المعرفة.

لقد كانت إسهامات المثقفين في مجالات السياسة و الأدب و الدين بمثابة رياح تحمل التغيير و التنوير فكان رجل الدين كما الفيلسوف همه الأوحد إعمال الفكر و الاجتهاد .... بعيدا عن كل تعصب مقيت .

فبعد سقوط الديكتاتوريات و صعود قوى جديدة أصبحنا نعيش حالة من التشظي المجتمعي و الفكري و الفوضى الهدامة فالكل يتحجج بالشرعية و المشروعية مستعملا كل الوسائل ويكيل شتى التهم من أجل استعادة فردوس مفقود أو جزء منه أو تلميعا لصورة ما فتئت تهتز أمام الطرف المناوئ له .

وهذا يجعلنا نتساءل عن دور النخبة المثقفة وسبب غيابها، وهل هو غياب طوعي، أم قسري من ورائه جهات و أطراف أخرى، فمهما يكن السبب، غياب أو تغييب فالأمر سيان يؤدي في الأخير إلى الهدف نفسه : إبقاء الوعي الجمعي في أدنى مستوى له، وبالتالي صعود الخطاب السطحي الشعبوي و الالتفاف عن القضايا المصيرية و التنصل من كل مسؤولية، إن ما نشهده حاليا هو نوع من التخدير و كي للضمير الجمعي، بشتى الوسائل و إقصاء الفكر الحر.... وقد أثبتت التجارب على مر العصور أن الصراع صراع الفكر و السلطة، بيد أن الجانب الخطير في الأمر عندما يقوم المثقف بتغييب دوره ويعمل ضدا عن إرادته وقيادة المجتمع في لحظة حاسمة.

فغيابه عن المشهد هو تقديم خدمة مجانية للسلطة بحسناتها و مساوئها و مساعدة لها على التجدر ومحاصرة الوعي بدل الارتقاء بالفكر و النقاش الجاد وإنضاج شروط تكوين مجتمع يؤمن بالحوار كشرط أساسي لكل تطور مجتمعي.

إن ما نشهده اليوم على امتداد العالم العربي هو تراجع خطير على كل الأصعدة و تراجع للنخبة المثقفة الحقيقية المؤثرة. فكل يوم يتناسل مثقفون، يندسون بيننا غايتهم تنويع مصادر دخلهم، فغاب معهم النقاش الواعي العلمي المؤسس لكل حراك ثقافي و حضرت محله محاباة المدراء و السلطة.

و تؤكد الوقائع التي نعيشها كل يوم خللا في بنية الإدارة و المؤسسات - هذا إن وجدت – وفي المجتمع ككل و الذي وصل إلى حد التطاول على الحقوق المدنية و الكرامة الإنسانية في كثير من المجتمعات .

إن غياب المثقف أفسح المجال أمام أفراد و زمر همها الارتزاق بالكلمة والفكر مقابل مصالح ضيقة.

فعندما يرتبط الأمر بشؤون المجتمع و تمس الحقوق المدنية و يتم الانتقاص من الرأسمال الرمزي للأفراد و المادي أيضا بأشكال وطرق منظمة، هنا لا ينبغي و لا يسمح لمثقفين بتغييب دورهم تحت أي ظرف فالحل يكون من خلال الكلمة الحرة و الفكرة من أجل معالجة المشكلة وتجاوزها ، فبالفكر و المفكرين و فتح النقاش في فضاء عمومي يمكن للمجتمع أن يرتقي .

 

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : عبد الله الودي
المصدر : جريدة صوت الإسماعيلية
التاريخ : 2013-10-15 10:34:53

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك