آخر الأحداث والمستجدات 

ساحة 'الهديم'... توأم جامع لفنا تحتضر

ساحة 'الهديم'... توأم جامع لفنا تحتضر

غزاها العـشابون و'استعمرت' أرضها المقاهي والمطاعم ومعاول الهدم ترفع في وجهها في كل وقت وحين

تعد ساحة "الهديم" من بين أهم المواقع الأثرية التي تزخر بها العاصمة الإسماعيلية مكناس، إذ تعتبر رمزا للمدينة العتيقة وقلبها النابض، باعتبار موقعها الإستراتيجي الجيد بالقرب من معلمة "باب منصور العلج"، بل ورمزا للكفاح الوطني، إذ مازال الجميع يستحضر تاريخ 2 شتنبر من سنة 1937، عندما جسدت هذه الساحة التاريخية مسرحا لمعركة دامية بين أهل مكناس والمستعمر الفرنسي، الذي حول جزءا من مياه وادي "بوفكران" نحو أراضي المعمرين والمرافق المدنية والعسكرية بالمدينة الجديدة (حمرية)، وهي المعركة التي تعرف محليا بـ" كيرة الما لحلو".
كما مثلت هذه الساحة "الذاكرة" مسرحا للمناظرات السياسية والفكرية وحلقات للمسرح الشعبي، ما جعلها ترتب في عداد المباني التاريخية والمواقع الأثرية بولاية مكناس، بقرار وزيري يقضي بإجراء بحث، كما هو منشور في الجريدة الرسمية تحت رقم 445 بتاريخ 3 ماي من 1921.

إذا كان أصل تسمية الساحة يرجع، حسب بعض المصادر التاريخية، إلى عملية الهدم التي تمت بها على عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل، الذي أعدها لاستعراض جيوشه قبل الخروج في الحملات العسكرية المنظمة ضد المعارضين أو ضد المحتلين الأجانب، فإن صفة الهدم تأبى إلا أن تظل ملتصقة بها، من خلال إخضاعها لـ"ألف تهيئة وتهيئة"، دون أن تستقر على حال يليق بتاريخها.

"الهديم"...اسم على مسمى

لقد أريد لهذه الساحة، التي عبثت بها أيادي العابثين، أن تتحول على عهد المجالس البلدية المتعاقبة على تدبير شؤون المدينة إلى "فأر للتجارب"، وإلى "بقرة حلوب" ومطية لتبذير المال العام وتبديده... فمن ساحة عادية تحتضن "حلقيات" الفرجة وتقبع فوق ترابها  مجموعة من"الكوتشيات"، إلى موقف تركن إليه السيارات والدراجات العادية والنارية، ومحطة لحافلات النقل الحضري ولسيارات الأجرة، بنوعيها الصغير والكبير، ومنها إلى حديقة كلفت عملية إحداثها ملايين السنتيمات، لتنتقل بقدرة قادر إلى فضاء للقبب القرميدية والنافورات متعددة الأشكال والأحجام  والأحواض المائية، ما جعلها وكرا مفضلا للحشرات ومرتعا خصبا للقمامات والأزبال، التي طالما أزكمت روائحها أنوف المارة بمن فيهم السياح الأجانب.
 ولأنها سميت بـ "الهديم"، فقد كان طبيعيا أن تجدد معاول الهدم صلتها بهذه الساحة وتعمد إلى دك ما بني فوق ترابها، لتذهب بذلك الميزانيات الضخمة المرصودة لمسلسل التهيئة أدراج الرياح، فاتحة بالتالي صفحة من صفحات تصورات في إطار تأهيل لم يكتب له أن يستقر بعد على رأي أو تصميم، حتى وإن نجحت الساحة، في السنوات الأخيرة، في استعادة جزء من حمولتها الثقافية وعاء للتراث الشفهي، من خلال احتضانها لـ"حلقات" صناع الفرجة والمرح والتسلية.

 احتلال غير مبرر!

وجوه باتت مألوفة عند مرتادي ساحة "الهديم"، سواء بغرض قضاء أوقات ممتعة في ضيافة رواد "الحلقة"، أو بهدف الركون إلى أحد المقاهي والمطاعم المحيطة بها، أو حتى من أجل العبور إلى شارع السكاكين التجاري، (وجوه) تشخصها عشرات "العشابة"، الذين دخلوا على خط الأنشطة والمهن التي أضحت تغزو الساحة، من خلال انتشار مجموعة من"عيادات" التداوي بالأعشاب، التي يزعم "أطباؤها"، وما أكثرهم في هذه الأيام، أن وصفاتهم المتنوعة قادرة على علاج كل الأمراض المزمنة، حتى وإن تعلق الأمر بما استعصى على الطب الحديث كداء البرص والقصور الكلوي والسكري والتهاب الكبد الفيروسي والعقم عند الرجال والنساء والسرطان...
ما يفسر تنامي واتساع رقعة هذه الظاهرة، وتزايد أعداد المواطنين الراغبين في التداوي بالأعشاب، بسبب رخص أثمنة "الوصفات المعروضة" إذا ما قورنت مع أسعار الأدوية الصيدلية، التي بات جلها فوق طاقة هذه الفئة، وبسبب كذلك جهل السواد الأعظم من الناس للعواقب الوخيمة لتناول هذه الأعشاب.
وإذا كانت مسألة التداوي بالأعشاب ليست دخيلة على المجتمع المغربي، شأنه في ذلك شأن العديد من بلدان المعمور، التي شكلت الأعشاب أداة من أدوات التطبيب بها، فإن الخطورة تكمن في افتقار هؤلاء "العشابة" ،الذين ينتشرون في الساحات والأماكن العمومية الطرقات والشوارع وأمام المساجد بعرباتهم المجرورة، لأبسط شروط أهلية الممارسة، ما يعرض حياة مستهلكي هذا الزخم من "الخلطات" و"الجلطات" المتنوعة الأشكال والألوان للخطر، لا قدر الله.
يحدث هذا على مرأى ومسمع من الأجهزة المسؤولة عن حفظ صحة وسلامة المواطنين، في شخص وزارة الوردي وجمعية حماية المستهلك، الغارقة مكوناتهما في سبات أصحاب أهل "الكهف والرقيم"، وفي غياب أي تقنين لهذه الحرفة من قبل الدولة.
ليست وحدها "عيادات" التداوي بالأعشاب من تجرؤ على "استعمار" أرض الهديم التاريخية، بل تتحالف معها في هذا الاحتلال غير المبرر المقاهي والمطاعم المحيطة بها، والتي تتنافس على نشر كراسيها وطاولاتها وموائدها ومظلاتها فوق تراب الساحة بشكل مثير للانتباه، مستغلة أضعاف مساحاتها بنسبة تفوق الألف في المائة، ما يطرح أكثر من علامتي استفهام وتعجب حول تمادي أصحاب هذه المحلات، الذين يعلون فوق القانون، في احتلال أرض هي في الأصل ملك للعموم. فما الذي يدفعهم إلى ذلك، إن لم يكن استهتارا بالقانون، واستثمارا لزبونيات وصداقات ونفوذ في بعض الأحيان، وبالتالي تحديا سافرا لما يمكن أن تقوم به سلطات الوصاية بالمدينة من ردع وضرب على يد المخالفين؟
في هذا الصدد، يتساءل الغيورون على المآثر التاريخية بالحاضرة الإسماعيلية عن الجهات المستفيدة من وضعية "السيبة"، التي تعرفها هذه الساحة، في ظل ضعف وفتور حملات تحرير الملك العمومي، التي تقودها السلطات الإدارية والجماعية والأمنية في فترات نادرة ومتباعدة، درا للرماد في عيون العباد، ليعود الوضع إلى حالة التسيب قبل أن يرتد إلى المرء طرفه.
كما يتساءل الجميع عن المعايير التي اعتمدتها المصالح المسؤولة في تمكين أصحاب محلات "ميكروسكوبية"، تابعة للملك البلدي، لا تتعدى مساحة الواحدة منها ستة أمتار مربعة على أقصى تقدير، من تراخيص استغلال المقاهي والمطاعم داخل دكاكين كانت في الأصل "صالونات تقليدية" معدة للحلاقة والحجامة، علما أن الحصول على رخصة لمزاولة مثل هذه الأنشطة التجارية الحساسة يتطلب الاستجابة لمجموعة من الشروط، وضمنها ضرورة التوفر على المرافق الصحية، الشيء الذي يغيب عن "مقاهي" و "مطاعم" الساحة، التي يتهددها خطر انفجار "القنابل الموقوتة"، مجسدة في عشرات القنينات الغازية الكبيرة المستعملة لأغراض مختلفة، مع العلم أن جل هذه المحلات ملتصقة ببعضها البعض. نقطة آخرى تستأثر بالاهتمام هي انفراد أصحاب هذه المحلات بتحديد أسعار غير قانونية للمشروبات والمأكولات المقدمة للزبائن، تضاهي تلك المعتمدة في أفخم المقاهي والفنادق، إذ لا تقل تسعيرة فنجان قهوة أو قنينة مشروب غازي عن عشرة دراهم، وقد يتضاعف هذا السعر في بعض الأحيان، عندما يتعلق الأمر بسائح أجنبي.
الترامي المفرط على الملك العمومي بالساحة، لا يقتصر على "العشابة" والمقاهي والمطاعم فحسب، وإنما يتعداه إلى المحلات الخاصة بالاتجار في المنتوجات الفخارية، التي عمد أصحابها إلى عرض سلعهم وبضائعهم المتنوعة فوق مساحات شاسعة، محدثين بذلك سوقا عشوائية مفتوحة.
وفي انتظار بزوغ فجر يوم تتحرر فيه أرض الهديم من محتليها شبرا شبرا، يبقى التسيب سيد الموقف في ساحة عالمية لم يكتب لها أن تنال حظها من العناية والاهتمام.

معلمة ينهشها الإهمال
إذا كانت هناك معلمة عريقة نالت حظا وافرا من التشويه والتهميش بالعاصمة الإسماعيلية فهي، بكل تأكيد، ساحة الهديم التاريخية، التي أضحت تعيش، وبشهادة الجميع، وضعا مترديا على أكثر من مستوى. وإذا كان هناك من هو جدير بأن يأخذ بيد هذه المعلمة الغارقة في اللامبالاة والضياع والتسيب فهي الجهات المسؤولة، التي تمتلك مفاتيح إنقاذ هذه الساحة وإعادة الاعتبار التاريخي والحضاري إليها. لكن من سوء حظ "الهديم المسكينة" أن اسمها ظل طاغيا عليها، ومن سوء حظها كذلك أن الذين بيدهم القرار لبسوا ثوب المتفرج على الساحة وهي تندب حظها العاثر، وتلك هي الطامة الكبرى. لذا بات تدخل المعنيين أمرا ضروريا ومستعجلا لإسعاف هذه الساحة من موت سريري يلوح في الأفق، وإعطائها ما تستحقه من عناية واهتمام كبيرين، حتى تتبوأ المكانة اللائقة بها توأما لنظيرتها بمراكش الحمراء، ساحة جامع الفنا، خصوصا أن الساحة الأولى بجهة مكناس تافيلالت تتوفر على كل المواصفات والمقومات التي تؤهلها لأن تصبح الساحة التي لا تغيب عنها الشمس والأضواء.

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : خ. المنوني
المصدر : الصباح
التاريخ : 2013-09-04 22:20:05

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك