آخر الأحداث والمستجدات 

تاريخ مكناس : الأسوار والأبواب والأبراج (الحلقة 2)

تاريخ مكناس : الأسوار والأبواب والأبراج (الحلقة 2)

تعكس أسوار مدينة مكناس تاريخَ الإبداعِ المعماري للحاضرة وأحد مكونات شخصيتها الحضارية التي تعكس تنوع الأشكال والوظائف العمرانية في تاريخ المغرب ككل. ومن شأن تتبع حلقات أسوار المدينة وأبوابها وأبراجها، والوقوف على المعايير السياسية والتقنية لتحقيبها، وأدوارها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والجمالية أن يعيد الاعتبار للمقاربة التاريخية الأكاديمية، وذلك بـ"إتحاف أعلام الناس بجمال أسوار حاضرة مكناس وأبوابها وأبراجها"، قياسا على مؤلَّف المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان (ت. 1365هـ/1946م)، ومن ثم التصدي للأساطير المؤسسة للروايات الشفهية غير المسنودة بأساس علمي في الحديث عن التشكلات المعمارية لهذه الأسوار والأبواب والأبراج، ومراحل إقامتها، وهندسة بنائها.

 

 1أسوار ما قبل العهد الإسماعيلي وأبواب المدينة وأبراجها: لم تكن مكناسة الزيتون، في فترة النشأة، مسوّرة، بل كانت عبارة عن قرى زراعية تمتد عبر مجال قدّره بعض الباحثين بحوالي مائة وخمسين كلم2. وبقي الأمر كذلك إلى حدود القرن 5هـ/11م لما كانت المدينة تعرَف بالحوائر القديمة؛ إذ لا تتحدث المصادر عن إمكانية وجود أسوار تحيط بتلك المدائن الصغيرة والمتفرقة (ورزيغة، وعوسجة، وبنو زياد، وتاورا، ...) رغم العنف العسكري الذي تعرضت له بفعل تدخل أمويي الأندلس وفاطميي إفريقية (المغرب الأدنى أو تونس الحالية)، في مجال اتسم بشساعة مساحته (حوالي 3380 هكتارا حسب بعض التقديرات التاريخية)، وتنوع سكانه (الزناتيون من مغراوة وبني يفرن وبني توالى، والأدارسة الحسنيون، والأندلسيون، وما تبقى من البيزنطيين الروم، ...).

 

وتم تدشين العهد المرابطي في تاريخ مكناسة الزيتون بدخول السلطان يوسف بن تاشفين لها عام 466هـ/1073م وبناء حصن "تاكرارت"، ومعناه المحلة (بحومة النجارين اليوم على وجه التقريب)، الذي مثّل قلب المدينة وقتئذ، والذي لم يكن مسورا إلا بعد بداية التهديد الموحدي للحاضرة؛ فأقام المرابطون، ولاعتبارات أمنية وعسكرية، عدة حصون وقلاع، وفق ما أقاموه بمجموع المغرب الأقصى وبفتوى من قاضي الجماعة أبي الوليد بن رشد الجد (ت. 520هـ/1126م) الذي انتقل من قرطبة إلى مراكش لتشجيع السلطان علي بن يوسف المرابطي على تسوير المدن المغربية، وتمويل ذلك عن طريق ضريبة "التعتيب".

 

شُرع في بناء سور مكناسة الزيتون عام 520هـ/1126م، وإن تحدثت بعض الروايات التاريخية الأخرى عن بداية بناء تاكرارت والسور في سنة واحدة، أي عام 545هـ/1150م، لكننا نرجح أن بناء السور المرابطي كان في فترة حكم علي بن يوسف لما تقوى نفوذ المهدي بن تومرت زعيم الموحدين وتهديده ليس للمدينة فقط وإنما لمجموع الدولة المرابطية؛ فغدت مكناسة الزيتون بمثابة قلعة عسكرية محصنة شجعت الحكام اللمتونيين على نفي بعض رموز المعارضة الأندلسية إليها (النصارى المعاهَدون وإليهم ينسب "درب الفتيان"، وعبد الله بن بلقين أمير غرناطة زمن ملوك الطوائف، ...)، وتحت نظر الحاميات العسكرية المرابطية (تيبربارين، حي الصباغين)، التي كان أفرادها يرابطون في معمار عسكري يتميز بسمك جدران حصونه وقلاعه، وعلو أبراجه نصف الدائرية، وكما يعكس ذلك أيضا "قصر ترزڴين" ذو الوظائف الإدارية والحربية.

 

ويعتبر "برج ليلة" من أهم الأبراج التي تعكس أهمية السور المرابطي، حيث أقيم غرب المدينة، وسمي كذلك لأنه بني في وقت قياسي لا يتعدى الليلة الواحدة. وقد هدم هذا البرج في عهد السلطان مولاي إسماعيل لتوسعة العاصمة آنذاك خارج السور من جهة الغرب، وهو ما يوجد اليوم بـ"جناح الأمان" تقريبا، على غرار السور الشرقي المرابطي الذي أدمج هو الآخر في القصبة الإسماعيلية.

 

وبذلك تكون الضرورة الحربية هي التي فرضت تسوير مكناسة الزيتون في العهد الثاني من عمر الدولة المرابطية؛ إذ ما فتئت بقايا هذا السور شاهدة إلى الوقت الراهن على هذه المعلمة المعمارية الوسيطية جنوبا، حيث يمتد ما تبقى منه ما بين شارعي السكاكين والحمامصية، ليفصل هذا الأخير عن القيسارية والسلالين، ومن هناك يواصل امتداده إلى سوق السرايرية، ومنه إلى باب الجديد. أما الجزء الشمالي منه السور فمبتدأه من حمّام البرادعيين، ثم مشهد سيدي مغيث، فدرب سبع لويات، ففران النوالة، ودرب قاع وردة، وباب مسجد حماموش.

 

أما زمن الموحدين فالأسوار بالمدينة كانت من توابع القصبة التي هي مقر إقامة الوالي واسمها التاريخي "إيمي إن تجيمي"، والتي أقيمت على أنقاض القلعة المرابطية قرب باب المشاوريين وجامع النجارين، وذلك على عهد السلطان محمد الناصر الموحدي عام 600هـ/1203م؛ حيث وجود أسوار سميكة ومتباينة الارتفاع، قرب زنقة سيدي سلامة وزنقة النوار. أما سور القصبة الموحدية المذكورة فيمتد من درب القرع إلى زنقة النوار، ومن السور الذي يمر قرب فندق المستضيء إلى سور جامع سيدي غريب.

 

وكان السور المرابطي والموحدي منفتحا عبر أبواب منها ما اندثر ومنها ما تغير موضعه الأصلي، مما يصعب معه التمييز بدقة بين أبواب المدينة حسب كل عهد من العهدين المذكورين. ومهما يكن فالأبواب المرتبطة بأسوار مكناسة الزيتون في العصر الوسيط، هي: باب البرادعيين، وباب المشاوريين (بحي الحمامصيين)، وباب القورجة (هدم وزيد في القصبة الإسماعيلية، وكان قرب مسجد الشافية بحي الروى مزيل)، وباب القلعة (يحتمل أنه قصر أجراو وصار يعرف فيما بعد بباب الحجر)، وباب دردورة (أو باب الصفا قرب باب تيزيمي)، وباب عيسي، وباب زواغة (بجوار متحف دار الجامعي)، وباب كناوة (يحتمل أنه كان بحي الصباغين قرب مسجد كناوة).

 

وبالمثل تشكل القصبة المرينية نواة للمعمار التحصيني لمكناسة الزيتون التي أصبحت في هذه الفترة وصيفة للعاصمة، ولذلك نعتت بـ"كرسي الوزارة" في مقابل "كرسي الإمارة" الذي اختصت به فاس آنذاك على حد تعبير الناصري في "الاستقصا"، فغطت القصبة ساحة للا عودة ما بين الدريبة إلى باب الحجر شرقي المدينة، وتمتد جنوبا إلى أن تقترب من ضريح مولاي إسماعيل ، أي خارج الحاضرة الموحدية جريا على الخطة المعمارية لبني مرين ببناء مدنهم خارج أمصار الدول التي سبقتهم، وكانت من بناء السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق عام 674هـ/1276م، فأسهمت ذلك في تحصين المدينة وإحاطتها بأسوار تميزت بسمكها وعلوها، ولا سيما في فترة حكم الأمير أبي زكرياء يحيى الوطاسي (ت. 852هـ/1448م) الذي أعاد للمدينة ازدهارها بعد ما عرفته من خراب بسبب الصراع على السلطة، سواء بين الأمراء المرينيين، أو بينهم وبين الوطاسيين؛ فازدهرت التجارة بالمدينة حيث كانت الأسواق تعقد بجوار أسوارها، منها السوق الأسبوعي الذي كان يعقد يوم الاثنين، مستفيدا من الحماية الأمنية التي كانت توفرا الأبراج المقامة على تلك الأسوار.

 

وإذا كان السعديون قد اتخذوا مراكش عاصمة لهم، فإن ذلك القرار السياسي والإداري انعكس سلبا على مكناس التي وإن دخلها الأشراف الجدد عام 955هـ/1548م، فإنها لم تحظ لديهم بالاهتمام الذي ورثته عن الدول المغربية الوسيطية، باستثناء الإصلاحات التي أدخلوها على معمارها، مما جعل الحاضرة تحتفظ بمتانة أسوارها، والنمط السابق الذي بنيت على شاكلته أبراجها.

 

 

2   الأسوار الإسماعيلية والهوية المعمارية لمكناس في العهد العلوي: استفادت مكناس من تحولها إلى عاصمة لمولاي إسماعيل، فكانت الأسوار والأبواب والأبراج من أهم المعالم العمرانية التي ميزت هذه الفترة. وتقدر بعض الدراسات أبعداها الهندسية الضخمة؛ إذ تتحدث عن سمكها المقدر تقريبا بما بين 1,20 و2,40 مترا، ومتوسط ارتفاعها بما بين 7 و10 أمتار. ولم تكن محاطة بالقصبة الإسماعيلية فقط، بل تعدتها إلى المدينة كلها. بل إن الأسير "مويط"، الذي شارك في بناء هذه الأسوار، يتحدث عن ثلاثة أسوار تحمي القصبة من الشمال الشرقي، يبلغ عرض الأول منها 6 أشبار يحتوي على أبراج مربعة ذات شرفات للمراقبة، ويبلغ عرض السور الثاني 30 شبرا على شكل ممر يحده جداران يمر منه حراس الأمن. أما السور الثالث فهو المجاور للقصور لحمايتها ولذلك يتسم بارتفاعه الذي يصل حوالي 12 باعا. 

 

أما من الجهات الثلاث الأخرى فتحاط القصبة الإسماعيلية بسور مماثل ذي العشرة أشبار عرضا، بأبراج مربعة وذات ارتفاع، مع تحصينات شرقا وفي الجنوب الشرقي.

 

وإذا كانت معظم هذه الأشكال المعمارية قد أنشئت في عهد مولاي إسماعيل، فقد تواصل بناؤها في عهد مولاي عبد الله الذي عزز تحصينات المدينة بالزيادة في ارتفاعها، وإقامة أبراج للمراقبة في زوايا القصبة، وأطلق عليها أسماء بعض قادة الجيش (السريعي، والقعيدي، والدغمي، ...).

 

وإذا أردنا تحيين المعطيات التاريخية لأسوار مكناس العلوية، فإننا نتتبعها انطلاقا من باب منصور العلج، إلى سور جامع باب النوار، ومنه إلى باب قصبة بني امحمد، إلى حي الزيتون، ثم في اتجاه قصبة هدراش، ومنه إلى حي سيدي عمرو الحصيني، فباب الحجر الذي ينقسم انطلاقا منه ذلك السور إلى سورين: يمر الأول منهما قرب الدريبة، إلى ساحة للا عودة بمحاذاة دار السمن، ليعود إلى باب منصور العلج. أما السور الآخر فينطلق من شارع الروى مزيل بمحاذاة جزء من حديقة الحبول (وبالضبط من باب أبي العمائر المندرس)، ليسير بموازاة عقبة الزياديين في اتجاه باب دار السمن المتهدم.

 

أما الأسوار الخارجية المحيطة بالمدينة، فمنطلقها حديقة الحبول، عبر باب تيزيمي الصغيرة، فباب البرادعيين، إلى باب بريمة عبر باب الجديد، ومنه إلى باب الخميس، فباب الرحى. يضاف إلى ذلك السور المحيط ببساتين تاورا، وتانوت، وعين معزا، وحمرية، وورزيغة، ووجه عروس.

 

واخترقت هذه الأسوار العديد من الأبواب التي بلغت حوالي 20 بابا، والمتميزة بالارتفاع والضخامة، وزخارفها وأقواسها وركنياتها، وكان لبعضها فتحات، والبعض الآخر تلحق به أبراج أمنية تم تسليحها بمدافع في عهد السلطان مولاي إسماعيل، وهذه الأبواب هي: باب منصور العلج، وباب زين العابدين، وباب قصبة بني امحمد، وباب البطيوي، وباب هري منصور، وباب كبيش، وباب القصدير، وباب للا خضراء، وباب قصبة هدراش، وباب الناعورة، وباب قصبة مراح، وباب الرايس، وباب مولاي إسماعيل، وباب ابن القاري، وباب فيلالة، وباب سيدي النجار، وباب الدار الكبيرة، وباب سيدي عمرو الحصيني، وباب الحجر، وباب أبي العمائر، وباب المرس، وباب البلاصة.

 

وكما سبقت الإشارة فإن الأسوار الإسماعيلية، وما أدخل عليها من إصلاحات بعدية، كانت تشكل الأبراج أحد مكوناتها التحصينية؛ إما بشكل مندمج في جزء من السور أو مقامة في إحدى أركانه وزواياه، وإما أن بعض تلك الأبراج مقامة فوق أبواب المدينة، نذكر منها: برج بن القاري، وبرج المرس، وبرج القصدير، وبرج الماء، وبرج بيبي عيشة، وبرج الشافية. علاوة على الأبراج المشيدة بعيدا عن الأسوار (البرج العدة خارج باب كبيش، وبرج العريفة، وبرج القناجر قرب حي الكريان، ...).

 

وهكذا تشكل الأسوار والأبواب والأبراج حلقة هامة من الحلقات المعمارية المتسلسلة عبر تاريخ مكناس، الذي استمدت منها معاملها الحضارية باعتبارها مدينة انتقلت من مرحلة الحوائر، إلى مرحلة الحصن، فوصيفة لعاصمة المغرب المريني، فعاصمة للسلطان مولاي إسماعيل.

 

الدكتور الحاج ساسيوي

 أستاذ التعليم العالي، متخصص في التاريخ الحديث والمعاصر

 

 

اقرأ أيضا :

تاريخ مكناس.. حلقات من التاريخ والعمران (الحلقة 1)

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : الدكتور الحاج ساسيوي
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2024-07-08 19:45:49

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك