آخر الأحداث والمستجدات 

الحاج ساسيوي يكتب : تاريخ مكناس.. حلقات من التاريخ والعمران (الحلقة 1)

الحاج ساسيوي يكتب : تاريخ مكناس.. حلقات من التاريخ والعمران (الحلقة 1)

لئن اختلفت الروايات التاريخية في تأسيس مدينة مكناس فإن بعضها يرجعه إلى القرن 4 قبل الميلاد. أما معالمها الإسلامية فتعود إلى القرن 3هـ/9م فذُكرت في المصادر التاريخية وقتها بـ"مدينة مكناسة" وبعدها بـ"مكناسة الزيتون"؛ فأصل التسمية يعود إلى القبيلة الأمازيغية (مكناسة) التي استقر فخد منها بضفاف وادي بوفكران فأنشأوا المدينة، وأضيفت إليها عبارة الزيتون وصفا لغلبته على مشهدها الفلاحي أو قربها من "وادي الزيتون" من جهة، وتمييزا لها عن مكناسة تازة ومكناسة الأندلس من جهة أخرى؛ فأُطلق الاسم على التجمعات السكنية غير المسوّرة، والمكونة من مدائن وقرى أو حوائر كما كانت تنعت، والتي كانت تمتد شمال غرب مدينة مكناس الحالية، والمتميز مجالها الطبيعي بخصوبته وكثرة مياهه وتنوع منتوجاته الزراعية، إضافة إلى بعض المنشآت المعمارية التي وفرت الاستقرار قبل قيام الدول المركزية المغربية، كالحمامات والمساجد والأسواق والأرحاء.

 

1- مكناسة الزيتون زمن الأدارسة: برزت "مدينة ورزيغة" كمركز إداري في العهد الإدريسي الأول لقرب المدينة من جبل زرهون حيث أقام الأدارسة دولتهم، مما جعلها هدفا لهجومات الفاطميين -حكام تونس- فيما بعد على يد قائدهم ميسور الفتى عام 324هـ/935م، فأسهم ذلك في خرابها لحساب "مدينة عوسجة" قرب وادي ويسلان، التي ذاع اسمها إلى حدود القرن 6هـ/12م. وبذلك اشتهرت كل من ورزيغة وعوسجة خلال هذه المرحلة مع أن مدائن مكناسة بلغت وقتئذ 14 حارة بين وادي ويسلان ووادي فلفل (أي وادي بوفكران)، استوطنها بعض البيزنطيين، والأمازيغ، والعرب، والأندلسيين.

 

وإذا كانت هذه المرحلة قد تميزت بالتأثير الأندلسي في حوائر مكناسة؛ فإن المدينة تأثرت كذلك بتدخلات الفاطميين، وأمويي الأندلس، والإمارات المغراوية واليفرنية الزناتيين.

 

2- مكناسة الزيتون: من المرابطين إلى الوطاسيين: فتح السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين مكناسة الزيتون ضمن جهوده لتوحيد المغرب وإنقاذه من التجزئة السياسية التي كان يعرفها زمن الإمارات المستقلة، وهو ما جعل المدينة تنتقل من مرحلة الحوائر إلى مرحلة الحصن نسبة إلى حصن تاڴرارت جنوبا، والذي يعني باللسان الأمازيغي المحلة ذات الوظائف الحربية، والذي يمثل النواة الأولى لمدينة مكناسة الزيتون التي لم تسوّر إلا بعد التهديد الموحدي للمرابطين في المدينة في فترة حكم السلطان علي بن يوسف المرابطي.

 

عين السلاطين المرابطون على المدينة ولاة لتسييرها إداريا وعسكريا، فكان مقر الوالي بقصر ترزڴين، شمال المدينة القديمة حاليا. وهو ما مكن المدنية من التطور عمرانيا وقتئذ كما تدل على ذلك بعض المعالم العمرانية التي ما زالت تحتفظ بها الحاضرة إلى الآن، مثل "درب الفتيان"، و"درب ڴناوة"، و"تيبربارين"، و"درب الصباغين"، ومسجد النجارين، وغير ذلك.

 

وفي إطار الصراع بين المرابطين والموحدين، وجه هؤلاء اهتمامهم لمكناسة الزيتون في عهد عبد المؤمن بن علي الڴومي الذي صَعب عليه الدخول إليها إلا بعد حصار طويل انتهى باستسلام سكانها، دون أن تفقد المدينة بعضا من مهامها الحربية خلال المرحلة الأولى من الحكم الموحدي، غير أن سلاطين هذه الدولة عملوا على الزيادة في تمدينها عبر تسويرها، وبناء قصبة كانت مقرا إداريا للوالي، ودار الإشراف حيث يكان يقيم المشرف على الجباية. وبذلك أضيفت الوظائف الإنتاجية والإدارية إلى وظيفتها الحربية للمدينة.

 

غير أنه، وبسبب اختلال أمر الموحدين منذ هزيمتهم في معركة العقاب بالأندلس (609هـ/1212م)، عانت المدينة من الخراب بفعل الحروب بين بني عبد المؤمن والمرينيين منذ تولي أبي يحيى أبي بكر بن عبد الحق السلطة؛ إذ نزل بجبل زرهون ومنه حارب مكناسة الزيتون حتى دخلها منتزعا إياها من آخر سلاطين الموحدين أبي العلا إدريس الواثق. وهو ما ترسخ في عهد أبي يوسف يعقوب المريني الذي اتخذ فاس عاصمة للحكم، مما جعل مكناسة الزيتون تتحول إلى وصيفة لها، لا سيما وأن السلاطين المرينيين استعانوا في إخضاعهم للمدينة ببيعتهم للخلافة الحفصية بتونس في إطار بحثهم عن المشروعية.

 

ومن مظاهر اهتمام بني مرين بالمدينة، لقربها من عاصمتهم، بناؤهم لقصبة مكناسة ومسجدها الجامع شرق المدينة بعد بناء فاس الجديد؛ فأصبحت مكناسة الزيتون "كرسي الوزارة، كما أن حضرة فاس الجديد هي كرسي الإمارة"، حسب تعبير صاحب "الاستقصا"، مستفيدة من تعزيز أسوارها لتحصينها.

 

لكن نهاية العصر الوسيط في المغرب وما اتسم به من اضطرابات سيؤثر سلبا على مكناسة الزيتون؛ ذلك بأن تراجع دولة المرينيين في القرن 9هـ/15م جعل الحاضرة تعاني من اختلال في فترة حكم السلطان السعيد بن عبد العزيز وتأمّر الشيخ اللحياني الورتاجني بمعية قائده أيوب بن يعقوب عل المدينة لمدة عقدين، قبل أن يتمكن الأمير أبو زكرياء يحيى الوطاسي من تخليصها، وإن لم يحل ذلك دون تراجع عمرانها، مما دفع سكانها إلى المشاركة في التمردات التي قامت ضد بعض السلاطين الوطاسيين، مثل محمد الوطاسي المعروف بالبرتغالي، الذي هاجم المدينة وحاصرها لمدة.

 

3- مكناسة الزيتون وتحولات العصر الحديث في تاريخ المغرب: السعديون والعهد العلوي الأول: إذا كانت مكناسة الزيتون قد عانت من إهمال نسبي من قبل الوطاسيين، فإن الأمر يكاد يكون كذلك في عهد السعديين الذين لم يمنحوها المكانة التي ورثتها عن الدول السابقة، فقد غلب على المدينة الطابع الفلاحي والحِرَفي على حساب الوظيفة السياسية بسبب انتقال العاصمة من فاس إلى مراكش، ولم تحفل إلا بوجود القصر السلطاني الذي ينزله السلطان السعدي أحيانا.

 

إلا أن المدينة ستعيد ريادتها الحضارية منذ المراحل المبكرة للدولة العلوية؛ فقد بنى بها مولاي إسماعيل دارا له لما قدم إليها أميرا عليها وعلى فاس بتولية من أخيه مولاي الرشيد. وزاد اهتمامه بها لما تولّى الحكم فاتخذها عاصمة؛ "إذ كان لا يبغي بها بدلا، حيث أعجبه ماؤها وهواؤها، وشرع في بناء قصوره بها" كما يقول أبو القاسم الزياني في "البستان"، مما يفهم معه أهمية جغرافيتها التاريخية وموقعها الاستراتيجي والمهام السياسية والإدارية التي ستناط بها في العهد الإسماعيلي، الذي تم خلاله النهوض بالمدينة لتعبر عن مركزيتها كعاصمة للحكم، وهو ما يفسر ضخامة عمارتها في هذه المرحلة من تاريخها (القصبة الإسماعيلية وملحقاتها وقصورها، الأسوار، رياض العنبري، ساحة الهديم، صهريج السواني، مسجد القصبة أو مسجد للاعودة، ...)، إلى درجة جعلت بعض المؤرخين الفرنسيين يشبهون مكناس بـ"فرساي المغرب" في إشارة إلى اهتمام كل من مولاي إسماعيل ولويس 14 بضخامة البناء في المدينتين.

 

حافظت مكناسة الزيتون على أهميتها التاريخية وضخامة عمارتها بعد وفاة مولاي إسماعيل، الذي أقام له السلطان مولاي أحمد الذهبي ضريحا بها (ضريح مولاي إسماعيل)، والسلطان مولاي عبد الله الذي زاد في علو الأسوار الإسماعيلية وتحصينها بالأبراج، وإتمام بناء باب المنصور العلج (باب القصبة الإسماعيلية). إلان أن هذا السلطان قام بهدم مدينة العنبري التي كانت مستقر الودايا وبعض خَدَمَة الدولة، وهو ما أفضى إلى زوال بعض المعالم العمرانية بها (المسجد الجامع، المدرسة، الحمام، الفندق، الأسواق، ...). 

 

وإذا كان للعوامل السياسية يد فيما عرفه تاريخ مكناسة الزيتون وعمارتها من تبدلات في هذه المرحلة؛ فإن للكوارث الطبيعية إسهاما في ذلك أيضا، ونخص بالذكر الزلازل التي أتت على جزء كبير من المنشآت بالمدينة (زلزال 1167هـ/1753م، و1169هـ/1755م، ...). 

 

وفي عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله بنيت الإقامة الملكية المسماة بـ"الدار البيضاء"، وأڴدال، وبناء أو إصلاح بعض المساجد والزوايا والأضرحة كمسجد الأزهر، ومسجد باب البردعيين، وضريح الشيخ الكامل، وضريح سيدي سعيد، وإعادة ترميم المسجد الأعظم، وغراسة جنان حمرية وتحبيس جزء من غلاتها على الحرمين الشريفين.

وبذلك، ومنذ عهد السلطان مولاي إسماعيل، تراجع الدور السياسي للمدينة لتحتفظ بالوظيفة العسكرية، مع ما تم إدخاله على منشآتها المعمارية من إصلاحات وترميمات وإضافات، تواصلت إلى أن خضع المغرب للحماية الفرنسية سنة 1912م.

 

4- مكناس زمن الحماية: خضعت مكناس على غرار باقي المدن المغربية للحماية الفرنسية منذ عام 1911م، ولم يتم استكمال احتلالها والتمكن من أحوازها إلا في متم سنة 1913م لشدة المقاومة التي أظهرها أهاليها سواء داخل أسوار المدينة أو ببواديها المجاورة، والذين تصدوا لكل مشاريع الاستعمار، كتدمير قبائل بني مطير وڴروان للخط السككي الرابط بين مكناس وفاس سنة 1902م، لأنه يعبر عن مظاهر التغلغل الأجنبي في المنطقة.

 

ولذلك تنبه الاحتلال الفرنسي لضرورة إخضاع المدينة قبل إجبار بواديها على الاستسلام؛ فبعد أن أتم الجنود الفرنسيون السيطرة عليها توجهوا إلى منطقة زرهون لاحتلال مدينة مولاي إدريس التي أطلقوا عليها اسم "بوتي جون Petit Jean"، وبعدها قصدوا مدينة الحاجب بقيادة الضابطين "برولار Brulard" و"كورو Gouraud"، وأنشأوا بها حامية عسكرية، لكون ارتفاعها يسهل مراقبة مكناس.

 

ولتكريس استعمار المدينة عين "دالبييز Dalbiez" حاكما عسكريا عليها، فبادر إلى تمشيط مكناس ومجالها القروي، مستعينا بالحاميات العسكرية التي تم إحداثها، مثل الحامية العسكرية التي كانت بأڴوراي لمراقبة قبائل ڴروان. غير أن هذه السياسة الاستعمارية لم تثن سكان مدينة مكناس على المواجهة، بل زادت مقاومتهم للاحتلال شراسة بعد توقيع معاهدة الحماية عام 1912م، فاستبدلت الإقامة العامة "دالبييز" لعدم تفوقه في لجم الأهالي وعوضته بالعقيد "هنريس Henrys" الذي استطاع كبح جماح المقاومة المحلية وإخضاع مكناس للاحتلال عام 1913م. 

وكان من نتائج سيطرة المدينة من قبل الاستعمار الفرنسي أن عمدت الإقامة العامة إلى إحداث مؤسسات إدارية وعسكرية أعطت لمكناس طابعا عسكريا بحكم موقعها الجغرافي وبنياتها، فتم ذلك في البداية على يد الجنرال "موانيي" الذي أنشأ بها مركزا عسكريا سنة 1911م، متخذا من قصر الدار البيضاء مقرا له، بهدف توفير قاعدة حربية ولوجستيكية لاحتلال الأطلس المتوسط. وبالمثل عرفت المدينة أيضا بناء مستشفى عسكري "مستشفى لويس" (مستشفى مولاي إسماعيل حاليا) في العام نفسه لفائدة الجنود الفرنسيين، كما أقيمت ثكنات عسكرية للجيش الفرنسي بهضبة حمرية.

 

ولترسيخ الوظائف العسكرية للمدينة زمن الحماية، فقد قسمتها سلطات الاحتلال إلى ثلاث دوائر، تضم الأولى مكناس وقبيلة ڴروان، وتشمل الثانية بوتي جان (منطقة زرهون)، وتهمّ الثالثة بني مطير، وكان على رأس كل دائرة قائد عسكري. كما قسمت هذه الدوائر بدورها إلى مناطق حربية لتسهيل السيطرة عليها سياسيا وأمنيا وإداريا؛ فـ"بوتي جون" قسمت إلى منطقة شمالية وأخرى جنوبية، وعلى كل واحد منهما قائد. وقسمت قبيلة بني مطير إلى قسم شمالي على رأسه القائد الجيلالي والقائد حدو نهموشة بعده، وقسم جنوبي ترأسه القائد محمد أورحو. كما أصبحت بني مطير ملحقة تابعة لجهة مكناس ومقرها الحاجب، وأصبحت بني مڴيلد دائرة ومقرها إيطو. كما قسمت قبيلة ڴروان إلى ڴروان الجنوبية على رأسها القائد علي بن محمد، وألحق هذا القسم بدائرة بني مطير، وڴروان الشمالية وعلى رأسها القائد بنعيسى بن محمد أوبردان، وتنتمي إداريا لدائرة مكناس وناحيتها، إضافة إلى قبيلتي مجاط وعرب سايس.

 

وفي إطار سياسة المهادنة تظاهرت سلطات الحماية بالإبقاء على المؤسسات الإدارية المغربية في البوادي، كالقائد والخليفة والشيخ، إلا أن الممارسة أثبتت أن سلطاتهم وقراراتهم كانت شكلية، في حين كانت السلطة بيد المراقبين المدنيين والعسكريين. كما تم الاحتفاظ بالإدارة المخزنية بمدينة مكناس برئاسة الباشوية التي تولاها الباشا بنعيسى بن عبد الكريم. وعدم المساس بنظارة الأحباس والقضاء الشرعي والحسبة وأمانة الأملاك المخزنية.

 

أما التسيير الفعلي للمدينة فقد أوكل للمؤسسات الإدارية التي أنشأتها الإقامة العامة، والتي تولاها موظفون فرنسيون، نذكر من ذلك "اللجنة البلدية المؤقتة لمكناس" التي أحدثت عام 1913، والتي اتخذت طابعا دائما ورسميا بناء على قرار الصدر الأعظم محمد المقري سنة 1914م، وليتم حلها وتعويضها بــ"المجلس البلدي" انسجاما ومقتضيات الظهير المنظم للمجالس البلدية بالمغرب سنة 1917م.

 

وأسندت إلى الباشا رئاسة المجلس البلدي، وكلف بمهام تدبير شؤون البلدية وصيانة ممتلكاتها، والجبايات، وتسليم رخص البناء، وتحديد أثمنة المواد الغذائية، وحفظ الأمن والنظام العام. غير أن التدبير الفعلي أوكل إلى الموظفين الفرنسيين الذين كلفوا بالأقسام الإدارية الأساسية كالمالية والأشغال العمومية.

 

ومن أهم المعالم التاريخية لمكناس زمن الحماية، قرار المقيم العام "اليوطي" بناء المدينة الجديدة، وهو تحول عمراني وتعميري الغاية منه تشجيع المعمرين الأجانب على الاستقرار بهذا المركز الحضري والاستيطاني المحدث، الذي كان القصد من المشاريع المشابهة له عدم إحداث تغييرات كبيرة في المدن القديمة، وبناء مراكز حضرية جديدة مجاورة لها، تكون مستقلة عنها وذات أشكال ووظائف معمارية عصرية تستقطب الأجانب.

 

أوكل إلى الضابط "بويميرو Poeymirau" مهمة الإشراف على إنجاز المشروع، وهو ما استفاد منه لكونه عين فيما بعد على رأس القيادة العسكرية للإقليم والمدينة عام 1916م. أما تصميم المدينة الجديدة فقد قام به المهندس المعماري "هنري بروست Henri Prost"، وكانت بداية رسم ملامح المشروع في صيف عام 1916م، وانطلقت الأشغال في مستهل صيف 1917م.

 

تداخلت المؤهلات الطبيعية لموقع المشروع الجديد بالوضعية القانونية للأرض التي سيقام عليها؛ فمنطقتا رأس أغيل وهضبة حمرية تقعان بين واديي ويسلان وبوفكران، ويفصلها هذا الأخير عن المدينة القديمة. أما من حيث الجانب القانوني فكانت المنطقة الأولى تدخل ضمن الأملاك المخزنية، والثانية عبارة عن غابة من الزيتون وقّفها السلطان مولاي إسماعيل على الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة.

 

اجتهدت سلطات الحماية الفرنسية في حل المشكلة القانونية لملكية الأرض بالمنطقتين؛ فقد تم الاستيلاء على حمرية وإقامة مراكز وثكنات عسكرية بها، في مقابل وضع اليد من قبل إدارة الأملاك المخزنية على رأس أغيل بعد صدور ظهير 1917م رخص بمقتضاه السلطان مولاي يوسف بتجزئة هذه الأرض من أجل توسيع المدينة وتسهيل السكن للأجانب. كما صدر ظهير آخر سنة 1918م خاص بتجزئة حمرية والسماح للأجانب بشراء البقع الأرضية. وبعد أن استطاعت بلدية مكناس امتلاك جميع أراضي حمرية بدأت في تجزئتها وعرض البقع الأرضية على الأجانب بأثمنة استثنائية خلال الفترة الممتدة بين 1917م و1918م، إما بالبيع، أو بالكراء لمدة 5 سنوات، وشرعت في تجهيزها. وقد مر بناء المدينة الجديدة المذكورة بأربع مراحل: 

 

أ- المرحلة الأولى ما بين 1917م و1921م: أحدثت خلالها تجزئات سكنية وبناء مراكز تجارية صغرى بالتجارة في رأس أغيل. كما أقيمت بحمرية إدارات مدنية وعسكرية، فتزايدت لذلك الأحياء التي كانت شوارعها تحمل أسماء "لا فاييط La Fayette" (شارع الأمير عبد القادر حاليا) وشارع باريس (لا زال يحمل الاسم نفسه إلى الآن)، وشارع الجمهورية (شارع محمد الخامس حاليا). وتوجهت هذه المرحلة بتدشين المدينة الجديدة من قبل المارشال اليوطي يوم 15 ماي 1921م.

 

ب- المرحلة الثانية ما بين 1921م و1930م: عرفت فيها المدينة الجديدة امتدادا كبيرا، واتخذت طابعا أوروبيا بحكم غلبة الأجانب على سكانها. لا سيما وأن هذا النوع من الاستيطان لقي تشجيعا من قبل الإقامة العامة ولذلك ازدادت أعداد الأوربيين الذين استقروا بالمدينة الجديدة؛ فقد انتقلت نسبهم من حوالي 2622 إلى حوالي 9945 نسمة ما بين عامي 1921م و1931م، وبلغت أعداد الفيلات والعمارات بها ما يقرب من 1000 على مساحة 40 هكتارا سنة 1930م. 

كما أحدثت أحياء صناعية ومراكز تجارية ، ومقرات إدارية ومنشآت سياحية وترفيهية (مقاهي ومطاعم وفنادق، ...) واجتماعية (السوق والملاعب الرياضية والمدارس، ...) وثقافية (المسرح البلدي وقاعات السينما مثل أمبير وأ. ب. س وكاميرا).

 

ج- المرحلة الثالثة بين 1931م و1940م: أحدث فيها قصر البلدية ومركز البريد وقصر العدالة وثانوية ومجزرة ومستودع للتبريد. وفي نهاية 1934م أصبحت المدينة الجديدة منقسمة إلى أربع مناطق رئيسية، هي منطقة الوسط وتضم حيا تجاريا وآخر سكنيا خاصا بالفيلات، ومنطقة لابوكل طنجة -فاس وتضم حيين أحدهما للفيلات وآخر للعمارات والصناعات الصغرى والتجارة بالتقسيط، ومنطقتين للصناعة والمستودعات بجنوب المدينة بين محطة القطار الكبرى ومنطقة الوسط وتضم حيا صناعيا وآخر للفيلات، وتوسعت المدينة بشكل كبير خلال هذه الفترة، حيث بلغت مساحتها 400 هكتار سنة 1939م.

د- المرحلة الرابعة الممتدة من 1941م إلى 1952م: اكتملت فيها المعالم الأوربية العصرية للمدينة الجديدة بمكناس.

 

ورافق هذا التمدين إقامة العديد من المؤسسات، كـ"الشركة الفرنسية الإسبانية للسكك الحديدية" التي أنشئت باتفاق بين فرنسا وإسبانيا سنة 1916م لإقامة خط سككي بين طنجة وفاس، لنقل البضائع والأشخاص وجلب التجهيزات وربط المدينة بمدن ومناطق أخرى. وإحداث الغرف المهنية الفلاحية والصناعية والتجارية، والمؤسسات الاقتصادية كالشركات، مثل فرع مكناس لـ"شركة المتاجر العامة والمخازن المغربية"، والجمعيات ذات الطابع الاقتصادي سواء في المجال الفلاحي أو التجاري أو الصناعي، مثل "جمعية أرباب معامل وبائعي المشروبات الغازية".

 

كما ظهرت مؤسسات ذات طابع اجتماعي تهتم بقضايا الساكنة الأوربية خاصة المحتاجين منها، كـ"الجمعية الخيرية المكناسية"، و"جمعيات قدماء المحاربين الفرنسيين"، وجمعيات المستخدمين، وأخرى ذات طابع ثقافي مثل "النادي الأدبي والفني لمكناس"، وجمعيات رياضية كـ"جمعية مكناس رياضة"، و"الاتحاد الرياضي طنجة-فاس".

 

أما المؤسسات التعليمية المحدثة وقتئذ فانقسمت إلى ثلاثة أقسام: المدارس الخاصة بالفرنسيين والأجانب وكانت تقدم تعليما فرنسيا، والمدارس الأهلية لتدريس أبناء الأعيان لتكوين الأطر المعدة للتسيير الإداري، والقسم الثالث يتكون من مدارس لتعليم اللهجات العربية والأمازيغية بالنسبة للإداريين والموظفين الفرنسيين، من بينها مصلحة المراقبة ومركز الدراسات الخاصة بالقبائل الأمازيغية للقيادة العامة بالشمال.

 

ومع ازدياد عدد الأوربيين أنشأت سلطات الحماية مدارس جديدة سنة 1922م، وأهمها ثانوية "بويميرو" سنة 1927م (ثانوية للا أمينة حاليا)، والمدرسة العسكرية سنة 1919م، وكانت خاصة بأبناء الموظفين السامين في حكومة الحماية والجهاز المخزني لإعدادهم ليكونوا ضباطا عسكريين.

 

وهكذا تتجلى الأهمية الحضارية لمدينة مكناس عبر التاريخ، وما قامت به من وظائف وأدوار سياسية وإدارية وعسكرية واجتماعية وثقافية، يجعل منها متحفا عمرانيا ينطق بالماضي والحاضر، وهو ما سنفصل في بعض معالمه في الحلقات الموالية.

 

بقلم : الدكتور الحاج ساسيوي 

أستاذ التعليم العالي، متخصص في التاريخ الحديث والمعاصر.

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : بقلم : الدكتور الحاج ساسيوي
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2024-06-20 17:29:12

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك