آخر الأحداث والمستجدات
ذكريات من (طيارة) مسجد سيدي امبارك بحي الزيتون
الطيب ابن أسرة المحراث والمحراب ، هو خامس إخوته ، لكن الصفة الثابتة عليه بالنداء (وَلد الفقيه). نعم، من أسرة مكناسية زيتونية المنشأ، تمتعت بشارة حمل كتاب الله حفظا، ومذاكرته فقها، وأصولا جيلا بعد جيل . أول معرفة لي به كانت بكُتَاب مسجد سيدي امبارك بحي ازعير الزيتون .
كان جامعا، نتلقى فيه تعليمهما الدينيالأولي، والممثل آنذاك في حفظ القرآن الكريم، وبعض قواعد التجويد والترتيل، والكتابة على اللوح الخشبي بالصمغ، ومذاكرة القضايا الفقهية البسيطة. ولم يكن فقيه كُتَاب المسجد إلا من أصول عائلة صديقي الطيب الفقيه (سي إدريس) رحمة الله، وعلى كل من وَطَأَت قدماه مسجد سيدي امبارك صلاة، وقياما، ودعاء.
في تلك الحقبة الماضية كان (المحاضرية) يفترشون الأرض حصيرا، ويبقى الجميع جالسا عليها مدة تزيد عن أربع ساعات، حتى تَرسُم ثنايا الحصير الطبيعية على مؤخراتهم رسما تجريديا بتموج نبتة السمار. وكانوا يجلسون صفوفا متباينة، أي بين من اقترب على ختم القرآن الكريم، وبين من لازال حديث العهد بالكتاب، يتدرب على مسح اللوح، وطلائه بالصلصال عند (معدة) المسجد. وبين من لا يفك الكلمات قراءة ، ولا رسم الحرف كتابة.
أول احتكاك بالطيب كان الشغب الطفولي، حيث سيتم اقتراف جرم الأكل من شجرة الفقيه المفضلة التين (الكرمة). آثار الجرم لاحقنا، ونحن بمسرح الجريمة فوق أغصان (الكرمة)، نمرح أكلا ممَّا لذَّ من (الكرموس). فيما توطد الجرم بشهادة الأقران، وبينة الاعتراف من شدة الخوف المفزع من المآلات المميتة !!!
كنت واثقا من أن الجرة لن يسلم سمنها ذلك اليوم. ولو حتى بوجود حفيد الفقيه بجانبي. فلن يشفع له قربه العائلي من العقاب. وكان حدسي صادقا، حيث نلنا من الضرب ما ناله طبل الطبال (غريب) يوم العيد. لن أحكي لكم تفاصيل عملية السلخ بكل أنواع قطبان الأشجار من الزيتون، مرورا بأعواد التوت، وأخيرا بفلقة. نعم، تلك (طيارة) آتية من تاريخ المعتقل السري بدرب مولاي علي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء. وكنت غير ما مرة قبل حادث الكرموس أتساءل عن دور تواجدها بالقرب من مجلس الفقيه (رحمه الله) ، إلى أن حان اليوم المشؤوم ، فاتضح دورها جليا بالوضوح. حينها تعلمنا درسا تجريبيا، وعمليا بالدقة والدق على الأجساد (الفلقة)، انتقلنا فيه من وضعية الملاحظة نحو قيود (الطيارة ). إلى طرح الفرضيات، وإحكام حركة الأرجل من طرف أكبر المحاضرية. إلى التجريب (الضرب والسلخ). إلى استخلاص القاعدة والنتائج السببية (الاستنطاق عبر التعذيب، والاعتراف حتى بما لم نقترفه).
انتهت معركة الكر والفر علينا عدة مرات. إلى أن تيقن الفقيه أنه استخلص جزاء أكل التين (الورناكسي)، بعلامات موشومة على مناحي كل فقرة من أجسامنا. وحين استنفد الفقيه (رحمه الله) جميع قواه الجسمية والجسدية، أمر كبير المحاضرية بشربة ماء من (مَعدَة) المسجد، وببراد شاي منعنع، وبسلة مما تبقى من (كرموس) الكرمة. بعد أن فك قيدنا، بوابل من السب والشتم الذي لحق حتى الآباء في مقرات عملهم بالعويجة خارج باب كبيش .
كل عيون مرتفقي المسجد عند خروجهما من قاعدة العمليات السرية (مولاي علي الشريف، الخلفية بالمسجد) متجهمة. كانت متجهة نحونا بالرؤية والتوجس، وحتى الشفقة لحالنا ودمعنا. فيما كان الخوف الأشد يسكن الجميع . لما لا، ونحن العبرة، ونتاج (فلقة الطيارة) .
ترجلنا الخروج بترنح الراقص على رؤوس أصابعنا الأمامية، وكأننا نرقص على رنة الدقة العيساوية بقيادة المقدم الحداد الزيتوني(رحمه الله) . لكن اللحظة لم تمنعنا من إعلان صلابتنا، وتحملنا لشدة العنف أمام الأقران. هنا نظرت إلى الطيب، والدم يسكن أنفه الأيمن قليلا ، ثم أطلقت ضحكة مدوية، كادت أن تصل إلى أذني الفقيه (رحمه الله)، فتعيد الكَرَّة بالشوط الثاني من العذاب، ويمكن أن يستعين الفقيه بالوقت البدل الضائع من مباراة الرفس و(الشيفون). لكن والحمد لله قلة سمعه (رحمه الله)، وتعبه من صرع شياطين الأجسام الصغيرة أنجتنا بأمان من ساعة القبض الثانية. فيما سرعتنا في المشي بالهرولة زادت، بل أضحت ترافق الناظرة على مزدوج الضحك والبكاء، بعد أن أصبحنا لا نقدر على وضع أقدامنا الحافية على بساط الأرض العرجاء.
خرجنا من الجامع ، وكل منَّا يمسح دمع الآخر بكلمات مضحكة ومستفزة. و كأنا نبحث عن تنفيس غيض دواخلنا ، واسترجاع توازننا النفسي، وأَنَفَتُنَا الإعتبارية. وكان خير ختم بداية (نكسة الكرموسة) الصداقة المستديمة، حين سألت الطيب: كيف كانت لذة مذاق كرموس الجامع ؟ أجابه الطيب كان كرموسا حلوا(طايب، وامشقق، و امبرع ، والله)، ويستحق كل آثار الندوب البادية والمختفية بأجسامنا . لكنه تأسف عن (كرموسة) كبيرة لم تستطع يده الوصول إليها، لعلو غصنها. هنا ابتسمت ضاحكا رافعا رأسي إلى السماء وقلت له: هل نعيد الكرة بالرجوع إليها ؟ لوح الطيب برأسه بالرفض الحتمي، لأنه نال التأديب أكثر منّي وبزيادة. وقال: سيأتي يوم سنعيد فيه اللعبة، ولن يستطيع فقيه الجامع (رحمه الله) أن يحكم قبضته علينا بالطيارة !!!كانت هي بداية صداقة إلى اليوم .
(حلقات رمضانية من تاريخ حي الزيتون)
الكاتب : | محسن الأكرمين |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2022-04-22 20:07:08 |