آخر الأحداث والمستجدات
من مذكرات عبد الرحمان الغندور : يوم تحول بورديل الإستعمار الفرنسي بمكناس الى ثانوية
ثانوية النهضة الإسلامية بمكناس و رحلة الانفلات المنضبط و الانضباط المنفلت، في مؤسسة شكلت المشتل الأساسي للكثير من الكبار والكبيرات من أبناء وبنات مكناس في مختلف الميادين.
ترصد هذه الحلقة وما سيليها من حلقات، الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1962، سنة التحاقي بثانوية النهضة، إلى سنة 1968 سنة حصولي على الباكلوريا...
بدأت رحلة الانفلات من العديد من الاكراهات التي فرضتها الأسرة والمدرسة الإسماعيلية بالتعليم الابتدائي، مباشرة بعد اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية وامتحان الدخول إلى الثانوي، وكنت قد اجتزتهما بتفوق، رغم غيابي عن المدرسة لمدة تزيد عن الشهرين بسبب إصابتي بمرض " التيفوئيد " الذي يمنع المصاب به من الاختلاط بالآخرين تجنبا للعدوى.
كان نظام الامتحانات في ذلك الوقت يقوم على اختبارين في يومين متباعدين:
الأول يسمح للناجحين فيه بالحصول على شهادة الدروس الابتدائية ( certificat d’études primaires ) و هي شهادة لا تسمح لصاحبها بالانتقال إلى التعليم الثانوي، لكنها تسمح له بالتوظيف في عدد من الوظائف و منها التعليم الابتدائي و الحالة المدنية و ساعي البريد...الخ. و كان هذا الامتحان مفتوحا في وجه الجميع من مختلف الأعمار، لا سيما الذين تمكنوا من الاستفادة من دروس محو الأمية.
الامتحان الثاني، و كان يسمى امتحان الدخول إلى السادسة ) examen d’entrer en 6eme) و هو الذي يسمح للناجحين فيه بالالتحاق بالتعليم الثانوي الذي يتضمن سلكين. السلك الأول في ثلاث سنوات، و ينتهي بشهادة الدروس الثانوية ( brevet d etudes secondaires ) و التي تعتبر شهادةة عليا تسمح لأصحابها بولوج وظائف أرقى في مختلف الادارات المغربية. أما السلك الثاني و هو أيضا في ثلاث سنوات، فينتهي بالحصول على شهادة الباكلوريا التي تفتح أمام حاملها أبواب التعليم العالي.
كان الامتحانان معا في نهاية المرحلة الابتدائية، يمران في يومين يفصل بينهما أسبوع، و كلاهما يتضمن اختبارات كتابية و شفوية في كل المواد.
لا يغيب عني ذلك المشهد الرائع للآباء و الأمهات و هم حشود في باب المؤسسات التعليمية في انتظار نتائج أبنائهم و بناتهم، و امتزاج الفرح بالبكاء. كما لن أنسى تلك الحفلات التي كانت تقيمها العائلات للناجحات و الناجحين، و ذلك الحجم الهائل من التهاني و التبريكات من طرف الجيران، و يغيب عني أيضا تلك العناية التي تحظى بها الشهادة و هي توضع في إطار و تعلق في صدر البيت.
بهذه المراسيم و الطقوس الاحتفالية سأغادر المدرسة الاسماعيلية و ألتحق بالتعليم الثانوي.و بالضبط بثانوية النهضة الإسلامية، وهي الثانوية الوحيدة المعربة التي تستقبل كل تلاميذ المدارس الحرة الموجودة بمكناس، إلى جانب التعليم الأصيل الذي لم تكن له هوية واضحة إلا ارتباطه بالدراسات الإسلامية المؤدية إلى جامعة القرويين بفاس أو كلية بن يوسف بمراكش. و قد شكل الالتحاق بالتعليم الثانوي فرصة لبناء علاقات جديدة والتعرف على نمط جديد من الحياة المدرسية أكثر انفتاحا وثراء وإغراء.
مؤسسة ثانوية النهضة بمكناس لم تكن بناية واحدة بل موزعة على العديد من البنايات عبر المدينة، فهناك بناية ثانوية مولاي حفيظ بالمدينة الجديدة التي يدرس بها تلاميذ الباكلوريا وبناية سيدي علي منون وهي خاصة بالتعليم الابتدائي، وبناية غريبة و بعيدة كل البعد عن أن تكون مؤسسة تعليمية تسمى " المرس" وهي التي من المفروض أن أدرس بها.
"المرس" ليس بناية مدرسية. هو عبارة عن حي سكني هيأته الحماية الفرنسية ليكون " ماخورا" ( بورديل ) أي تجمع سكني لممارسة البغاء بشكل قانوني. وبالتالي فهو عبارة عن مجموعة من الدور من طابق أوطابقين تحتوي على غرف صغيرة وصحن مفتوح على الفضاء، تمت تغطيته بصفائح الزنك والقصدير للحماية من سقوط المطر لأنه سيتحول إلى فصل دراسي.
الفصل الدراسي إذن هو هذا الصحن الذي تحيط به غرف ممارسة البغاء التي تم إغلاقها ، حيث اصطفت فيه الطاولات في اتجاه السبورة المعلقة في أحد أبواب الغرف المغلقة. و لم يكن يمت بأية صلة لأي فضاء تربوي تعليمي.
كان الانتماء لثانوية النهضة مثار سخرية وازدراء من طرف تلاميذ الثانويات المفرنسة مثل ثانوية مولاي اسماعيل و ثانوية بويميرو lycee poeymirau التي ستسمى فيما بعد ثانوية للا أمينة، كانوا ينعتوننا بسبب أننا معربين بمجموعة من الفقهاء ومحاربي الأمية وقراء القرآن على القبور.لكن الازدراء الأكثر وقعا هو بسبب نوعية البناية المشهو رة في مكناس بفضاء للدعارة.
الثانويات المفرنسة هي عادة بنايات أعدت لتكون مؤسسات تعليمية بما تتوفر عليه من وسائل وإمكانيات وشروط تسمح بممارسة العملية التربوية والتعليمية. أما ثانويتنا فهي أصلا دور سكنية مورس فيها البغاء لسنين عديدة، واكتسبت شهرة خارج مدينة مكناس حيث كان يزورها المجندون الفرنسيون لممارسة أحد "حقوقهم " في الحياة، إلى جانب العديد من المغاربة من هواة السهر والسمر، ثم تحولت بقرار إداري إلى ثانوية يخجل تلامذتها من الانتساب إليها. الشيء الذي كان يسبب لنا الإحراج كلما سئلنا عن اسم الثانوية التي ننتسب إليها، بل إن تلاميذ الثانويات المفرنسة كانوا ينعتوننا ب " أولاد البورديل" بما تحمله هذه التسمية من قسوة، وما تسببه من إحساس بالخجل والمرارة النفسية.
سيتم نقلنا في سنة لاحقة الى ثكنة عسكرية قرب المطار العسكري، لنعود من جديد الى حي المرس إلى ان حصلنا على الباكلوريا.
كانت أغلبية الأطر الإدارية من المدير إلى الحراس العامين والمعيدين ينتمون لحزب الاستقلال دون أن تكون لهم سلطة التوجيه السياسي كما كان الأمر في المدرسة الاسماعيلية، أمثال الأستاذ أحمد السحاقي الذي كان مديرا، والأستاذ جلال الصافي وقد كان حارسا عاما بمثابة الناظر اليوم. إلا أن الجديد الذي أثار اهتمامي هو الطاقم التربوي الذي كان أكثر عددا وتنوعا حيث تعرفت على فكرة التخصصات المتنوعة.
وتنوع جنسيات المدرسين. فقد كان الأساتذة مغاربة ومصريين ولبنانيين وفلسطينيين وعراقيين وفرنسيين ويهو د مغاربة. وكانت التخصصات على قدر كبير من التنوع ما بين الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والاجتماعيات، و العربية، والفرنسية، والانجليزية، والكيمياء، والفيزياء، والتربية البدنية التي لا يوجد ملعب لممارستها وكنا نضطر للتنقل إلى ملعب النادي المكناسي لكرة القدم لممارستها. وسأكتشف فيما بعد لأول مرة، أن الأساتذة المغاربة ليسوا على رأي واحد من حيث الانتماءات السياسية كما هو الأمر في المدرسة الإسماعيلية. فقد كان منهم المحايدون والاتحاديون والاستقلاليون والشوريون والشيوعيون.
لقد ساعدنا التنوع والغنى في الأساتذة والمعارف الجديدة، على التكيف مع الوضع المزري لشروط الدراسة وعقدة الانتماء لثانوية معربة يدرس تلامذتها في " بورديل". هذا الوضع الذي غذى لدينا كل أسباب الاحتجاج والعصيان والتمرد، مما جعل ثانويتنا "برميل بارود" في كل المعارك والإضرابات والمظاهرات التي سيعرفها القطاع التلاميذي لاحقا.
هكذا بدأت في التعرف على نموذج جديد من المربين من خلال سلوكهم وطريقة تدريسهم، وبساطتهم، وشعبيتهم، وخاصة من خلال خروجهم عن محتويات الدروس للتحدث إلينا حول مواضيع وقضايا وطنية وقومية وعالمية،أذكر من بين هؤلاء الاساتذة بومور، المصباحي، الحيحي، ومحمد المزوار والشاعر الذي علمنا عشق الشعر الأستاذ بن سالم الدمناتي،وفي مستوى الباكلوريا الأستاذ احمد الطريسي ومحمد الجابري في الادب العربي، والأستاذ الطاهر بن حلام وسعيد بنسعيد العلوي في الفلسفة ...إلى جانب الفلسطينيين أمثال سالم العطاونة، وسعيد شحادة، وعبد الرحمان الرفاعي، والمصري محمود حاتم، واللبناني سامي نبيل، واليهودي أسولين، والفرنسية مدام بواطو...الخ
كان خطاب عدد من الأساتذة المغاربة يتميز بالخروج عن الدروس ونوع من الغيرة والدفاع عن البسطاء والفقراء، حتى أتصور أنهم يدافعون عني وعن أسرتي التي تنتمي إلى هذه الشريحة بامتياز...كما كانوا يبسطون القول في نقد الواقع الذي يعيشه المغاربة من فقر وحرمان وجهل ومرض و يشرحون بإسهاب الأسباب المؤدية لهذا الوضع. و هكذا بدأت بعض الكلمات تستقر في دهني كمفاتيح لفهم العديد من القضايا، كلمات و إن كنت لا أستوعب آنذاك مضامينها ، لكنها جعلتني أدرك أني أنتمي للطبقة الكادحة، و أن خصومي هم الإقطاعيون و البرجوازيون و الرجعيون.
لم يطل الوقت لأكتشف أن هؤلاء الأساتذة وآخرون سيأتون بعدهم في مساري الدراسي بالثانوي، ينتمون للفصائل التقدمية اليسارية ولا سيما حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب المهدي بن بركة، وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري، و المحجوب بن الصديق، و عبد الرحمان اليوسفي. ولقد كان لهؤلاء أثر في انتمائي السياسي لاحقا، وانخراطي في المسارات النضالية بما تطلبته من تضحيات.
الكاتب : | مذكرات عبد الرحمان الغندور |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2022-03-21 21:46:18 |