آخر الأحداث والمستجدات 

حول تاريخ جوائح جهة فاس مكناس خلال العصر الوسيط

حول تاريخ جوائح جهة فاس مكناس خلال العصر الوسيط

يتبين من خلال قراءة رصيد الخزانة التاريخية المغربية على أهمية ما تراكم خلال العقود الأخيرة من نصوص بقيمة علمية عالية، أن جوائح بلادنا تاريخياً من أوبئة ومجاعات وجفاف..، لا تزال بغير ما ينبغي من دراسة وتنقيب وصبيب بحث. ذلك أن ما حصل من سبر أغوار المجال هو غير شاف، علما أن قضايا الجوائح بمثابة جدل دوري جمع على امتداد قرون بين طبيعة بلاد وانسان. وعليه، يظهر أن ما تم فرزه وبلوغه من أعمال بقيمة مضافة هامة هو بنصوص ومقاربات لا تسمح بفكرة متكاملة حول ما جرى. مع أهمية تقدير ما يسجل من ندرة في المادة المصدرية، فضلاً عما يطبع ولوج حقل تاريخ البلاد الاجتماعي ومن خلاله الذهني والنفسي والثقافي من هيبة وتخوف لدى الباحثين، كان بأثر في طبيعة انتاج كماً ونوعاً بعد حوالي نصف قرن من الفعل الجامعي.

وجدير بالاشارة الى أن البحث في تاريخ الجوائح ومنها الأوبئة ببلادنا هي بأسماء سباقة، انصافاً لها نذكر منهم محمد الأمين البزاز والحسين بولقطيب رحمهما الله، فأعمالهما واسهاماتهما تعد خريطة طريق ومسالك اشتغال مثلها مثل شجرة لِما جاء من أعمال لاحقة ذات صلة. يبدو من حصيلتها وكأن الموضوع يدخل ضمن مسكوت عنه، علماً أن ما هناك من ظواهر تخص الجوائح ارتبطت دورياً ببلادنا منذ العصر الوسيط، ولا تزال علاماتها قائمة ممتدة من خلال حمولة ذهنيات ونفسيات وسلوك واعتقادات وغيرها.

وبقدر ما هناك من شبه صمت لمصادر مغربية حول مسألة الأوبئة وجوارها منذ هذه الفترة، باستثناء شتات اشارات هنا وهناك في نصوص اخبارية دون توقف يسمح بما هو شاف. بقدر ما حصل من اقبال لأبحاث ودراسات تاريخية حديثة تجاه قضايا دون أخرى، ما جعل موضوع الأوبئة والآفات الاجتماعية والطبيعية بحيز تراكم محدود أو يكاد يكون.

   ويتبين أن ما هو متوفر من معلومة مصدرية أمر لا يسعف الباحث بما هو كاف لتتبع أثر جوائح مغرب العصر الوسيط وتكوين فكرة حول امتدادها بالمدن والبوادي ، وبالتالي صعوبة تأطير ما هو محلي حول الموضوع علماً أن ما أوردته مصادر الفترة ارتبط فقط بفاس ومراكش لمركزيتهما في البلاد. ففي هذه الأخيرة زمن الموحدين ورد حديث عن وباء 571- 572ه، وقيل أنه كان يموت بسببه ما بين المائة والمائة وتسعين ضحية يومياً. وأنه شمل جميع فئات المجتمع دون استثناء، بل أصاب الخليفة يوسف ابن عبد المومن وأخاه أبا حفص وكاد أن يأتي عليهما وأن المدينة تم عزلها نهائياً عن باقي البلاد. ما يتبين من النص التالي"وفي هذه السنة وهي سنة احدى وسبعين نزل الوباء والطاعون بمراكش ولم يعهد مثله فيما تقدم من الأزمنة قبله."

وحتى ابن بطوطة على عهد بني مرين اكتفى بالاشارة لموتى مدن المشرق بالوباء وسكت عن أحواله بالمغرب علما أن أمه توفيت بسببه، وكان هذا الحدث بالنسبة اليه مناسبة للحديث عن أثر الوباء بالمغرب والأندلس لكنه لم يفعل، ما قد يكون راجعاً لأسباب دينية كما شأن مؤرخي هذه الفترة والذين كانوا يرون ان الوباء قضاء الله وقدره.

   وحول الغرب الاسلامي في علاقته بالأوبئة لم يرد في نصوص عربية ما يفيد، فالمقريزي مثلاً في حديثه عما عرف بالطاعون الأسود، أورد أنه عم أقاليم الأرض كلها وجميع الأجناس متوقفاً في اشاراته على بلاد افريقية فقط. بل حتى الدراسات التاريخية المغربية الحديثة التي توجهت في مقارباتها لكيانات مغرب العصر الوسيط السياسية، فما أشارت اليه من جوائح جاء في فقراتها ومحاورها ضمنياً بغير ما هو كاف من معلومة وتحليل ومقاربة. 

   وفي علاقة بجوائح مغرب العصر الوسيط وما حصل، يظهر أن كل جهة من جهات البلاد واجهت ما حل بها من محن وفق وضعها وأنماط عيشها ومعيشها وثقافتها، فكانت بأحداث وأسرار وعقليات وسلوك وتدافعات... وعليه، فإبراز ما هو محلي ذو علاقة أمر بالغ الأهمية في أفق تراكم داعم لِما هو شامل من نصوص وحقيقة تاريخية نسبية، من خلال رصد ما حصل من افراز ثقافي واجتماعي لا يزال بعض شتاته وأثاثه عابراً لزمن المغاربة هنا وهناك بين بوادي ومدن.

  وعلاقة بمدن مغرب العصر الوسيط، لا نجد أي شيء عما عرفته مثلا مكناس وفاس وتازة من أوبئة زمن الموحدين، علماً أن البلاد كانت عرضة لطاعون بداية سبعينات القرن السادس الهجري، قالت مصادر تاريخية أنه اقتصر على مراكش وأحوازها. مما يطرح سؤال طبيعة المعلومة حول انتشار الوباء، ولما قد يكون حصل منه ببلاد الأندلس وسلا وغيرها علماً أن الوباء استمر لمدة تجاوزت السنة. باستثناء نص عن القرن الثامن الهجري زمن بني مرين أورد انتشار الوباء بفاس ومكناس وتازة فيما يتعلق بشمال المغرب جاء فيه:" انتهى أمر هذه السنة الشهباء..(763ه) ممسكة شحاً كلما موهت بالقزع تلاشى هلهله، وفشا دخانه وظهر الطاعون بأرض مكناسة وفاس وتازا وما الى ذلك لكونها لم تستأثر ببلالة رحمة مما قسم الله لغيرها، الى ما أصابها من معرة الفتة الى هذا العهد واستهدف من بها الى هلكة المجاع وفشو الموتان.. ففي هذا العشر الآخر..عظم الجفاف وعصفت الريح الرجف تنقل الهضب قبل ارتداد الطرف وتبدل أعيان الأرض وتعاجل حلاق لمم النبت، فصيرت وجه الأرض كمطارح خبث الحديد أمام مضارب البيد يبساً وقحلاً وعقراً للأرجل وعصياناً على الشابك واحرقت ما كان قد نجم من باكر البذر ".

   ومن وقائع الطبيعة التي ضربت هذه المدن أيضاً في بداية العقد الثاني من القرن الثامن الهجري خلال فترة حكم  بني مرين، ما حصل من أمطار عاصفية وسيول رهيبة أحدثت جرفاً وانجرافاً وتدميراً شديداً وتخريباً. جاء عنها :" وفي سنة اثنين وعشرين وسبعمائة هبت ريح شديدة، واستمر هبوبها يومين بليلتهما هدمت الديار وقلعت الأشجار ومنعت الأسفار." ولاشك أن هذه الآفات الطبيعية كانت تترتب عنها سلوكات اجتماعية عدة من قبيل قطع الطرقات والنهب على اثر ما كانت تعرفه سلطة المخزن من ضعف."

     وعلاقة بفاس وتلمسان عبر تازة وممرها خلال هذه الفترة وما كان يترتب عن الجوائح من سلوك، جاء في نص يخص رحلة بين تلمسان وفاس أورد فيه صاحبه أنه قضى بعض الوقت بتلمسان، بحثاً عن قافلة يقطع معها طريقه الى غاية تازة خوفاً مما كانت عليه من أخطار. واصفاً الطريق بالموحشة التي لا تخلو من قطاع طرق قال أنهم أشد خلق الله ضرراً وأكثرهم جرأة وأقلهم حياء ومروءة، مضيفاً انهم لا يعفون عن السبيل وأن ليس في المنطقة اخس منهم همما ولا أوضع نفوساً، مشيراً الى أنه قطع الطريق بين تلمسان وتازة رفقة قافلة من ألف فرد. 

   ولعل ممن تفاعلوا مع جوائح مغرب العصر الوسيط نجد ابن هيدور التادلي الفاسي، وقد توفي بسبب مجاعة فاس أواسط العقد الثاني من القرن التاسع الهجري. ورد عنه في دراسات ذات صلة أنه جمع في حديثه عن الوباء بين تفسيرين علمي ثم خرافي، بحيث بقدر ما يصل بداية وبحس علمي بين هواء وفساد نظام تغدية وبين حلول وباء، بقدر ما هو بتفكير خرافي جعل فساد الهواء وتغيره مرتبطاً بحركة أجرام وكواكب مفسدة للمزاج، ما يعني جدل علم وخرافة في عقلية مثقف مغرب العصر الوسيط وفيما طرحة ابن هيدور واقترحه لعلاج وباء الطاعون.

    علماً أن ما حصل من نزيف ديمغرافي بسبب الطاعون وما عرف أيضاً ب"الوباء الوابل"، دفع لوضع تصانيف بخصوصه من قبل كتاب قبل مقالة ابن هيدور التادلي بحوالي قرنين من الزمن على الأقل. وكان هذا الأخير قد تحدث عن العلاقة بين كوارث الطبيعة وضيق العيش وتدهور أحوال الناس من شدة ارتفاع الأسعار وقلة المواد، مضيفاً أن ارتفاع الأسعار يكون سبباً في انتشار الوباء وأحياناً نتيجة له، بحيث أورد في مقالته حول ماهية المرض الوبائي التي تسمى أيضاً بالخطبة المكية في الأمراض الوبائية وهي مخطوطة بالخزانة الحسنية :" اذا كان الغلاء وطال واشتدت اسبابه لزم عنه الوباء وهذا علم صحي."

    ويتبين أن ضمن تاريخنا هناك محطات كبرى تشكلت بفعل أزمات طبيعية، لا تزال بقعاً مهملة بحاجة لمزيد من التفات الباحثين بتقدير الأستاذ القادري بوتشيش. علماً أن ما تحتويه حولياتنا التاريخية من مادة حول جوائح طبيعية هو بخجل كبير، بل ما جاء بها كان عرضاً في سياق حديثها عن مصاعب واجهت السلطة أساساً. فقد تم تدوين ما تعلق بمصائب البلاد الطبيعية في علاقتها بمن أرخ لها وتم اغفال هوامش البلاد وما هو محلي، وهو ما يزيد من صعوبة تكوين فكرة شافية حول الموضوع خلال العصر الوسيط، فضلاً عن كون ما ورد في ثنايا مصادر تاريخية عدة لا يتجاوز اشارات متفرقة يصعب معها تحقيق تتبع دياكروني.

   ويتبين أيضاً أننا بحاجة لدراسات أكثر انفتاحاً على تاريخنا وفق مداخل زمنية واجتماعية وبيولوجية وطبية..، في أفق ورش من شأنه تعقب مجال من خلال زوايا ورؤى ومقاربات متعددة. لبلوغ نصوص أكثر تجاوباً مع ما هو مطروح من اشكالات ذات صلة، لعل منها على سبيل الاشارة فقط إرث مغرب العصر الوسيط الوبائي عن العصور الكلاسيكية.

   ولن يتطور هذا سوى بما ينبغي من استنطاق لمخطوطاتنا وما تزخر به خزاناتنا العلمية، لتتبع مسار قضايا شكلت نقاطاً محورية في تاريخنا يصعب القفز عليها. فالآفات التي عصفت ببلادنا منذ العصر الوسيط لا شك أنها كانت بآثار على أكثر من مستوى، وما أصابها من وباء كان يأتي كجزء من جائعة طاعونية تواترت ضرباتها على نحو حلقي كل عدة سنوات لدرجة المائة سنة، ولم تكن تختفي إلا بعد اطاحتها بحياة أعداد هائلة من العباد.

       ولا شك أن ما عصف ببلادنا بشكل دوري من جوائح على امتداد قرون من الزمن، بحاجة لفرق بحث يحضرها مؤرخون وسسيولوجيون ونفسيون سلوكيون وانتروبولوجيون واقتصاديون ومجاليون ومناخيون. في أفق ورش من شأنه تأطير أمكنة البلاد وأزمنتها في علاقتها بما حصل من موجات وبائية فاصلة، كذا مقاربة مفاهيم وتتبع أثر وإبراز مظاهر وتحليل أسباب وسبل وقاية وأنماط تفاعل فضلاً عما ترتب من خوف وشعور وردود فعل.

   وفي اطار ورش تاريخنا الاجتماعي وما ينبغي أن يكون من رهان، بقدر الحاجة لِما يمكن أن يسهم به البحث التاريخي في بعده المحلي عملاً ووعياً برأي "ميشيل فوكو" "لا تاريخ إلا التاريخ المحلي". بقدر حاجتنا لنماذج في كتابة تاريخية يطبعها تجديد نظري ومعرفي، لتجاوز أحادية نظرة تجاه اشكالات ذات طبيعة تاريخية اجتماعية. 

عبد السلام انويكًة

باحث في تاريخ المغرب

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : عبد السلام انويكًة
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2020-04-15 17:52:41

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك