آخر الأحداث والمستجدات
الوفاء للجحود !
الخميس الماضي (13 يونيو)، مرت الذكرى الخامسة لرحيل المفكر المغربي المهدي المنجرة، دون أن يتذكره أحد تقريبا، حتى من بين تلامذته ومن كانوا مقربين منه، كما يحدث مع كل الراحلين الكبار في هذه البلاد. وفاؤنا للجحود مخيف. من دفنّاه ننساه، حتى لو ترك كنزا ثمينا، يكفي أن نوزعه على الناس كي نمنحهم ثراء فكريا بلادنا في أمسّ الحاجة إليه، خصوصا بعدما أصبحت محمية «ضباع» كبيرة، كما تنبأ بذلك رجل آخر كبير المقام، نسيناه أيضا، اسمه محمد جسوس!
لن أنسى أول لقاء حضرته للمهدي المنجرة عام 1992. كان ذلك في قاعة المحاضرات ببلدية المنزه في مكناس. جمهور غفير ينصت باهتمام لرجل غاضب. أساتذة جامعيون، طلبة، موظفون، مناضلون، شيوخ، شباب… أنهوا عملهم وحجوا بكثافة للاستماع إلى مفكر يحدثهم عن مصير المغرب والعالم العربي، وسط التغييرات السريعة التي فاجأنا بها العقد الأخير من القرن العشرين، بعد سقوط «الاتحاد السوفياتي» واندلاع حرب الخليج الثانية، التي سماها عالم المستقبليات بكثير من النباهة، «الحرب الحضارية الأولى».
كان القرن العشرون يستعد للانصراف، ومعه الحسن الثاني، وكانت نبرة المنجرة حادة وأفكاره واضحة وجرأته مفاجئة، لا يملكها إلا القليلون في تلك السنوات الصعبة. هجوم الأمريكيين وحلفائهم على العراق مطلع التسعينات، أعاد المفكر بقوة إلى الواجهة كما أعاد حزبي «الاتحاد الاشتراكي» و»الاستقلال» ومعهما «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» و»الاتحاد العام للشغالين»، ارتفعت شعبية الجميع، وأصبحوا محط اهتمام «الجماهير».
مع محمد عابد الجابري وعبدالله العروي، كان المنجرة من المفكرين النادرين الذين يستطيعون ملء قاعة وفناءها الخارجي بالناس، عندما يتحدثون. لكن، بخلاف العروي والجابري، كانت نبرته عالية وحماسه زائدا، والحماس ليس دائما خصلة أكاديمية. كان المنجرة يقف في منطقة غير واضحة بين الفكر والسياسة: غاضب أكثر مما يلزم لمفكر وعميق أكثر مما ينبغي لسياسي، لذلك قلل البعض من قيمته المعرفية، واتهمه البعض بـ»الشعبوية»، لكنه في غربال التاريخ سيبقى رجلا عظيما، مزج الفكر بالأخلاق واختار أن يقول «لا» في زمن «نعم».
المنجرة كان نموذجا فريدا وسط النخبة الفكرية التي صنعت مغرب ما بعد الاستقلال: الاستثناء الأنغلوساكسوني. درس في الولايات المتحدة وبريطانيا، وبدا تأثره واضحا بالثقافة الأمريكية. كان ينتج أفكارا قريبة من الناس، ويريد أن يؤثر على حياتهم وأن يدهشهم، أكثر من اهتمامه بالنفاذ إلى العمق. طوال مساره الحافل، سعى منظّر «الإهانة» إلى تكسير الهيمنة الفرنسية على العقل المغربي، وفتحه على آفاق أخرى، سافر إلى اليابان ودعا الشباب إلى التعرف على تجارب مختلفة في الذهاب إلى المستقبل. وقف عكس التيار، بكل ما يملك من معرفة وغضب، وواجه نخبة أقدامها في المغرب ورأسها في باريس، تسيطر على مفاصل البلاد وتريد أن تجعل منها نسخة ردئية من فرنسا. كان الراحل «يحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد» ويريد أن يراها تصعد كل القمم، ويتأسف للفرص التي ضيعناها أكثر من مرة. يحمل غضب المبدع في صدره، احتياطي هائل من الحنق على مسؤولين لم يحسنوا التصرف في التركة، ولأنه لم يخف يوما حنقه، فقد أقصي من كل المناصب الرسمية في وقت مبكر. في نظام سياسي مثل الذي عندنا، لا مكان لرجل بثقافته الاستثنائية ومزاجه الحاد. لم تتقبله السلطة، لم تستلطفه النخبة، وغار منه الكثيرون لأنه ظل يحقق انتشارا جماهيريا ويؤثر على الشباب. كان من أوائل من استعملوا المعلوميات، وبشروا بالقرية الكونية التي نعيش فيها اليوم.
المهدي المنجرة، أحد تجليات ظاهرة مغربية فريدة، تجعل من المفكر «نجما». بعد سقوط جدار برلين، نهاية الثمانينيات، أصبح الرجل رقما أساسيا في المعادلة الفكرية المغربية. الجميع يريد أن يسمع رأيه، لأنه يملك أدوات تحليل غير مألوفة في المغرب والعالم العربي، ويعرض أفكاره بكثير من التبسيط، وكلما ساءت سمعته مع السلطة، زادت شعبيته وسط الجماهير. طوال التسعينيات، ظل يتحرك مثل «زعيم»، من مدينة لمدينة، ومن قاعة لقاعة، ومن جريدة لجريدة، وحده التلفزيون ظل مغلقا في وجهه، وكانت عروضه تمنع أحيانا، كما تمنع عروض الفنان الساخر بزيز، وغيرهما ممن شقوا عصا الطاعة في مغرب الحسن الثاني. أعتقد أن المنجرة كان سعيدا بهذا «النجاح الجماهيري»، الذي عوضه عن كل المناصب، وجعل منه مرجعا أخلاقيا نادرا في مغرب نخرته الانتهازية، وسباق النخبة على الغنائم. عندما كنت أنصت إلى الحقوقي الفرنسي الراحل ستيفان إيسال Stéphane Hessel، الذي صعد نجمه سنوات قليلة قبل وفاته، بعدما تحول كتابه: «اغضبوا» إلى ظاهرة، كنت أفكر دائماً في المهدي المنجرة وأتحسر. هناك تشابه كبير بين الرجلين: كلاهما وضع مساره الاستثنائي في خدمة الفكر والأخلاق والإنسان، لكن في الوقت الذي كرمت فيه فرنسا رجلها «الغاضب» وحظي بكل أنواع التمجيد، قوبل ستيفان إيسال في صيغته المغربية بكثير من الجحود، حيا وميتا. رحمة الله عليه.
الكاتب : | جمال بدومة |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2019-06-19 18:01:42 |