آخر الأحداث والمستجدات 

مدينة بوفكران : بين التخطيط السياسي و الحلم الاجتماعي

مدينة بوفكران : بين التخطيط السياسي و الحلم الاجتماعي

تميز المجتمع المغربي خلال العقد الأخير بانفجار سكاني جد مثير للانتباه، تبدت بوادره في الوثيرة السريعة التي تناسلت بها العديد من القرى وشبه المدن الجديدة بمختلف مناطق المغرب في إطار  سعت الدولة من ورائه إلى التمكن من الاحتواء  التدريجي لأعداد السكان الوافدين بكثرة على المدن الكبرى وتفادي اختناقها وتشوهاتها المعمارية والحضارية والتراثية والهندسية والجمالية.

وعلاوة على هذا الجانب التخطيطي والتقني والفني، فإن مرامي وأهداف الخطاب الرسمي كانت تمس بشكل كبير الجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بكافة التراب الوطني ذلك أن التصريحات الرسمية في هذا الشأن، بكافة أشكالها وصيغها، كانت تحاول دائما أن تظهر وتبدي أن توجهات الدولة والسياسات العمومية الخاصة بالمدينة والتعمير والسكنى والشؤون الاجتماعية والاقتصادية تكثف من جهودها في اتجاه واحد وتعمل وفق أرضية مشتركة وواحدة تتحدد معالمها في شكلها العام كما يلي:

- إعادة تهيئة المدن الكبرى وترميم عناصرها التاريخية في أفق تحويلها إلى نقط استقطاب للسياحة الداخلية والخارجية معا، وجلب الاستثمار.

- ولتحقيق الهدف أعلاه تم اللجوء إلى تشجيع الاستثمار في المنتوج العقاري التقليدي في الأحياء القديمة بالمدن الكبرى وكذا بالقرى والبوادي، أي اللجوء الى تسليع الأراضي وإخضاعها لتقلبات السوق المستمرة.

- أفضت العملية أعلاه إلى نشاط كثيف ومنافسة شرسة ومحمومة داخل سوق العقار عامة ومن ثم في سوق الإسكان، خاصة بعدما تم تسجيل حضور قوي لفاعلين ذاتيين ومعنويين، من الداخل والخارج؛ ولتخفيف عبئ هذه المضاربات تم نهج معيار الكمية للتصدي للطلب المتزايد على السكن بالقفز طبعا على المعايير القانونية والامنية والصحية الضرورية لسكن لائق، مما جعل السكان الحضر المتزايدة أعدادهم باستمرار يعيشون تحت رحمة ترتيبات عقارية غير مستقرة وغير آمنة. حيث أنه، في إطار هذا التحرير الاقتصادي للسوق العقاري، لجأ كل فاعل إلى استراتجياته ودهائه وتحايلاته وعلاقاته وتعبئة كل قواه لربح الرهان، ما يعني أن القوي سيجد بكل تأكيد ملاذا ومكانا يأويه داخل الفضاءات المخصصة لمثل هذه الالعاب، بينما الضعيف لن يبقى أمامه سوى حزم حقائبه والخروج من مسرح المداولات والمقامرات مطأطئ الرأس في اتجاه البحث عن مكان أخر للإيواء.

- وإذ تعد هذه النتيجة، بدون شك، عاملا من بين عوامل أخرى ساهمت بقوة في بروز فئة اجتماعية أضحت بين عشية وضحاها لا تتوفر على سكن يأوي أفرادها وذويهم، فإنه تنبغي الإشارة إلى أن الدولة عملت من أجل هذه الغاية على تهيئ وإخراج منتوج عقاري جديد إلى حيز الوجود قادر،حسب زعمها، على تلبية الطلب المتزايد على السكن ويتعلق الأمر بما سمي بالسكن الاقتصادي الذي شيدت من أجله العديد من المدن الجديدة التي نذكر منها مدينتي: تامنصورت وتامسنا باعتبارهما النموذجين اللذان حاولت الدولة من خلالهما إفراغ مدينتي مراكش والرباط لتحقيق الهدفين الأول والثاني أعلاه.

ودونما الخوض في كل تفاصيل السياسات المتعلقة بالمدينة والسكنى والتعمير عامة وكل ما يتعلق بمدى تمكن الدولة من تحقيق الغايات الاجتماعية المتمثلة في توفير السكن للجميع وكذا بالشروط والظروف المؤثثة والمواكبة لذلك، سنقف عند نقطة أساسية ربما ستشكل المدخل الأساسي لنقاش مستفيض حول سياسة المدينة عامة يرتبط فحواها بمدى التزام أصحاب القرار السياسي والمهندسين والتقنيين والفنيين القائمين على الشأن العام  بالمدن والتعمير والتخطيط الحضريين  باحترام البعد البيئي بالمجالين الحضري والقروي معا، على أساس اعتبارهما كيانين غير منفصلين، ثم يرتبط ثانيا بحدود إنجاز وتحقيق الدولة المغربية لوعودها وبرامجها فيما يخص توفير سكن لائق للفئات الاجتماعية المعنية بالسكن الاقتصادي أو ما اصطلح عليه بالسكن الاجتماعي؛ إذن سنحصر اهتمامنا على مسألتين أساسيتين هما البعد الإيكولوجي والسكن اللائق، وسنأخذ كنموذج للنقاش "مدينة بوفكران" الواقعة بين مدينتي مكناس والحاجب.

يشير البعد الايكولوجي عموما إلى العلاقة القائمة بين الأحياء ومحيطها الخارجي وهي علاقة لا تقف عند حدود التفاعل بين الطرفين بل تتسع لتشمل ظروف البقاء والديمومة والاستمرارية؛ ومن ثم فإن هذا المفهوم يؤكد بشكل واضح على العلاقة الاعتمادية المتبادلة بين البشر والبيئة الطبيعية، أي أن العلاقة بين الطرفين علاقة جدلية تفضي سلامتها وصوابها إلى إمكانية الاستدامة وضمان شروط الحياة بهذا الكوكب على مدى المستقبل القريب والبعيد، ما يعني أن كل الاهتمامات بالبيئة  ينبغي أن تنكب على الحذر والإحاطة بالتطورات المناخية وكل الأنشطة، البشرية والطبيعية، التي من شأنها أن تساهم في تدهور الإطار العام الضامن لبقاء وتجديد الحياة واستمرارها عبر الزمان والمكان؛ وبالتالي فهذا المفهوم يأخذ بعين الاعتبار تأثير الإنسان على البيئة المحيطة بهدف تفادي النتائج المدمرة لها.

 أما مصطلح السكن اللائق فيقصد به كل سكن تتوفر فيه شروط الجودة والسلامة والأمن وظروف الصحة والراحة النفسية والجسمانية وتحقيق الكرامة الإنسانية، فهو يتضمن ما يتجاوز الجدران والسقف الذي يستظل به الإنسان، فالمسكن ضرورة أساسية من ضرورات المعيشة الصحية السوية، أي أنه يلبي حاجات نفسية عميقة للتمتع بالخصوصية وبمكان مقصور على الشخص وحده، وحاجات مادية للتمتع بالأمن والاحتماء من عوادي الطقس، كما يلبي أيضا الحاجة الاجتماعية إلى أماكن تجمع أساسية تنشأ وتنسج فيها العلاقات وتترعرع؛ وعلاوة على ذلك، فهو لا يقتصر فقط على الفضاء الداخلي الذي يحتمي فيه الإنسان بل يشمل كذلك وبكل تأكيد محيطه الخارجي وبالتالي فالبيئة المحيطة تمثل عنصرا أساسيا وضروريا من شروط السكن اللائق.  

 انطلاقا مما ذكرناه أعلاه، سنحاول بقدر المستطاع ملامسة نتائج ذلك على الأرض التي حددناها للنقاش، أي مدى استجابة مدينة بوفكران لهذين المطلبين: سكن لائق واحترام البيئة. لن نوسع في رسم حدودهما بل سنكتفي فقط بإثارة ملامح ومتغيرات بعينها نأمل أن تكون قادرة على إبراز مكامن القوة والقصور في كلا المجالين، وقادرة كذلك بما فيه الكفاية على التنبؤ الواضح بالصورة المستقبلية لمآل الوضع بهذه المدينة.

في بادئ ذي بدء، نشير إلى أن مدينة بوفكران ليست مجرد وعاء عقاري شُيد تحديدا من أجل استيعاب الفائض البشري المسجل بمدينة مكناس أو أماكن أخرى، وإنما هي مدينة ضاربة جذورها في عمق التاريخ المغربي. فهي ذات دلالة ورمزية قويتين نظرا لحمولتها التاريخية المرتبطة بالمعركة الواقعة أطوارها بالمنطقة ضد المستعمر خلال منتصف الثلاثينات(1937) من القرن الماضي، والتي شكلت نقطة انعطاف في مسار النضال الوطني ضد المستعمر الأجنبي. وإذا كان الأمر كذلك فإن البلدة المنتفضة سكانها آنذاك ضد الاستعمار، ها هي الآن لا زالت تؤدي أدوارها البطولية بكل تفان وإسرار وإن كان المشهد مختلفا تماما، حيث زُجًت أراضيها الخصبة في معركة مصيرية غير محددة المعالم وغير متكافئة ضد المد العمراني الوحشي المدجج بالآجر والاسمنت المسلح. فقد شُيدت بالمنطقة، على نحو متسارع، خلال الآونة الأخيرة حوالي خمسة تجزئات سكنية تشكل إحداها الأضخم حيث تبلغ مساحتها ما يناهز نصف المدينة تقريبا(حوالي 2500 بقعة سكنية)، وهو المشروع الذي استحسنه الجميع لتمكينه الآلاف من الناس من الحصول على سكن يأوي ذويهم؛ إذن، يبدو الشق الكمي من هذه العملية مرضيا ومقنعا على العموم، فهل المشروع مستوف للشرط الكيفي؟

ننطلق من أجل محاولة الإجابة على هذا السؤال، من معاينات ميدانية يمكن أن تشكل أدوات للتحليل حيث يبدو أنها تتوفر على ما يكفي أن يدفع حتى المرء العادي إلى الاستفسار عن دواعيها الخفية والظاهرة من جهة وعن نتائجها على المدينة ككل. والتي نستقي من بينها التالي:

تتميز هذه المدينة بوجود كثافة عالية للمباني السكنية بالمقارنة بالمساحة المجزئة، بمعنى أن المنطق المتبع في التعاطي مع السكن هناك هو معيار الكمية بكل امتياز، وبدون شك فهذا التوجه العمراني الذي يرمي الى تحقيق أكبر عدد من المباني ومن البقع الأرضية المخصصة للسكن سيكون على حساب أبعاد أخرى يشترطها عمليا معيار الملائمة والجودة في السكن اللائق. فهذا المنطق الكمي كما هو مجسد بهذه المدينة أفضى بالضرورة إلى عدة نتائج من بينها:

 تصغير واضح في مساحات البقع الأرضية الشيء الذي سيؤدي بدوره إلى تآكل الحيز المكاني الضروري للفرد الواحد.

ندرة واضحة بل على الأرجح غياب واضح فيما يخص الفضاءات الخضراء، وصغر وضيق الأزقة والشوارع، وغياب الاهتمام بالمرافق الصحية والرياضية والاجتماعية والثقافية الضرورية لحياة الأفراد والجماعات.

على الرغم من كون عدد سكان المدينة في ارتفاع مستمر فإننا لا ندري إلى أي حد تأخذ السياسة المعتمدة هناك هذا البعد بعين الاعتبار في اهتماماتها المستقبلية. ذلك أنه إذا تأملنا الأفكار التالية التي مفادها:

أن تمدد وتوسع المدينة قد يكون نتيجة حتمية لضغط العدد المرتفع للبشر، خاصة إذا كانت من طينة مدينة بوفكران أي عبارة عن مراقد لا غير.

أن التركيبة الاجتماعية لساكنة هذه المدينة تتألف في مجملها من فلاحين وتجار صغار، وموظفين صغار أغلبهم مُبعدين من مدينة مكناس و الحاجب، وعمال فلاحيين بالخصوص يقصدون المدينة للمأوى على اعتبار أن المدينة تتواجد بقلب سهل سايس، والعديد من أفراد الجالية المغربية بالخارج.

فإن النتيجة التي يمكن أن نستخلصها هي أن أغلب سكان المدينة وافدون، كما أنه ستعرف مما لا شك فيه اختناقا وضغطا سكانيا متزايدا بشكل مستمر وعلى مدى المستقبل البعيد، كيف ذلك؟

تواجد المدينة بهذه المنطقة الفلاحية بامتياز تشكل بكل تأكيد موضوع  كل الأطماع الهادفة إلى الارتقاء الاجتماعي أي أنها ستكون، كما هي الآن، وبحدة أكبر منطقة مستهدفة بالهجرة الداخلية والخارجية معا، أولا من قبل الفئات الاجتماعية التي تعاني من ويلات البطالة والفقر والحرمان والجفاف وقلة فرص الشغل بهدف البحث عن العمل بالضيعات الفلاحية المجاورة لتأمين القوت اليومي وتحسين ظروف العيش، كما يقصدها ثانيا أولئك الذين يبحثون عن الاستثمار في الميدان الفلاحي أو بالمجالات المرتبطة بذلك. علاوة ذلك هناك من يدفعهم ضغط الحياة اليومية بمدينتي مكناس والحاجب إلى الانتقال نحو هذه المدينة بحثا عن حياة أفضل. كما نشير في السياق ذاته إلى أن ما يساعد  بالدرجة الأولى على تقوية عملية الهجرة هذه هو طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تنسجها كل فئة من هؤلاء فيما بين عناصرها من خلال الارتباط بالأصل أي بنقطة الانطلاق، ونقصد هنا تلك العلاقات التي تربط الأفراد والجماعات هنا وهناك، والتي تتقوى وتزداد صلابتها ومتانتها حينما يعبر الطرف المهاجر بطريقة ما عن توفر ووجود شروط وظروف مناسبة وملائمة لحياة أفضل، من ثم يزداد الاهتمام ويستمر التواصل بين الطرفين وتبدأ فكرة الرحيل تختمر لدى الطرف الثاني لتنضج تحديدا حينما يتمكن من العثور وضمان(على الأقل لأيام معدودة) مساحة(سكن مستقل، بيت داخل المنزل، عمل، مشروع استثماري...) يمكن أن تأويه وذويه، وطبعا كل واحد حسب الفئة التي ينتمي إليها، ليبدأ نفس المسلسل مع أطراف أخرى من جديد وبنشاط أكثر حدة من السابق.

 ثم نجد فئة اجتماعية ذات طبيعة خاصة ويتعلق الأمر بالإفراد والأسر التي يتم جلبها لتعمير وحراسة مباني أفراد الجالية، فهذه الفئة تتميز بالمرونة والدينامكية والحركية والنمو السريع حيث تتناسل وتتفرع بسرعة لتشكل عائلات وجماعات متعددة عبر النمو الطبيعي أو من خلال استقطاب وجلب واستقبال وافدين جدد من الأهالي والأقارب بهدف الاستقرار وتحقيق حياة أفضل.

إثارة هذا الإشكال الذي يمس بدون شك كل مكونات المدينة لا يحيل بتاتا إلى ضيق في التفكير أو مرجعية وعقلية محدودتا الأفق، بل على العكس تمما هو نابع مما يمكن للجميع أن يلامس ويستشعر مظاهره من خلال تجليات واسعة الانتشار بكل أحياء المدينة يمكن أن نجيز مفادها في ما يلي: يكفي القيام بجولة سريعة بأحد الأحياء بالمدينة حتى تدرك أن كثافة المباني ما هو في حقيقة الأمر سوى شجرة تخفي وراءها غابة كثيفة، أي أن تكتشف أن المجال الأخضر منعدم تماما في ذهنية المنعش العقاري المغربي وفي السياسة العمومية بمجملها، إذ لا وجود لحدائق  ولا أشجار بيئية؛ كما سترى وتلاحظ جيدا بأن هناك العديد من الأسر تستأجر « كراجات « لتأوي ذويها، وأخرى مكدسة داخل غرف بنفس المنزل، وتشاهد أطفال مقذوفين إلى زقاق ضيقة يملئونها ضجيجا وصراخا، وشيوخ ممددين على عتبات أبواب المنازل. أما الشارع العام الذي تم استثماره لخلق مشروع اقتصادي جيد تمكن بدون شك أن يدر أرباحا طائلة، فإن أول يكتشفه الزائر هو غياب كلي لمرافق صحية ونظافة تعلي من شأن المشاريع الموجودة هناك.

إذن تبدو الصورة على ما أظن واضحة، فالمدينة تم التعاطي معها، على ما أعتقد، من وجهة واحدة وتم تناسي وغض الطرف عن باقي الأبعاد التي لا تقبل التقسيم وتفضيل هذا على ذاك؛ إننا نعي تمام الوعي أزمة السكن التي يعيشها المجتمع المغربي، لكن لا نعتقد بأن نهج أسلوب الكم على حساب الكيف سيؤدي إلى معالجة المشكلة، بقدر ما نرى في ذلك إعادة إنتاج المشكل ذاته والأزمة نفسها  لنطرح السؤال :

إلى أي حد يستشعر القائمين على الشأن المحلي كل هذه التطورات ؟                                               

ما هو التفكير المعتمد لدى أصحاب القرار السياسي بالمدينة للتعاطي مع نمط المدينة هذه ؟

كيف يتم التخطيط لمواكبة هذا النمو السكاني في إطار يحفظ كرامة الجميع وسلامة وأمن المدينة ؟

هل هناك إستراتجية استباقية لاحتواء هذه التنبؤات ؟

كيف يعمل القائمين على الشأن المحلي لتوجيه القوى الوافدة من أجل تنمية المدينة والرفع من إشعاعها الحضري والتراثي؟ وما هي الآليات المسخرة لذلك؟

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : هيئة التحرير
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2013-05-09 16:07:00

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 أخبار عن نفس المنطقة 

 إنضم إلينا على الفايسبوك