آخر الأحداث والمستجدات
قصص الصوم : حلم يقظة الحياة (ج2)
...توقفت المرأة (لالة الشريفة ) لأكثر من مرة وكأنها تستجمع أنفاسها الضائعة بين ضياع وجه المدينة الأخضر الزيتوني . كنت حينها لا أضغط عليها بالأسئلة ولا بالعجلة ، وإنما كنت الأذن الصامتة المستمعة إلى الحكي الذي يجاوز بين رواح الماضي وإصباح الحاضر وتقطع الأيام . الآن صوتها اعتلت رنة أوتاره الصوتية تسوية نطقية مفهومة احتلت باحة البحة ، وأصبح انسيابه يوازي تلون المكان بين أشعة شمس وبين طيف غيمة تنعكس على المكان ظلمة ويزيد من دربنا كآبة وعزلة.
اتجه خطابها نحوي بتنهيدة ليست بالكبيرة الكبيرة ولكنها تحمل مسار حياة تتشابك خيوطها بين أزقة مدينة لا منفذ لها لروح الحرية واليقظة والنهضة. كلماتها كلها تحاصرني بالقول والتعيين ، قبل أن يصل قولها إلى مرمى مقصد الحلم . هي تعرف بالتمام أنها تسلك بي أبواب الإطناب وتمطيط الحديث . قالت بعد أن نظرت إلى الأرض وكأنها تبحث عن كنز مفقود ، غرفة بيتي تحاذي قبلة ضريح سيدي عبد القادر العلمي، كل ليلة أسترق سمع الذكر والأمداح النبوية من طاقة علوية لغرفتي باتجاه الضريح . لكن منذ ما يقرب من سنة وأنا أواجه نفس الحلم حتي حفظت أجزاءه، وخبرت ناسه، وآنست أحداثه، وسجلت أسماء ناسه.
ازداد شوقي الفضولي إلى معرفة تمام خاتمة الحلم دون التفصيل في أحداثه رغم أن حدسي يخاطبني ويشعرني بعدم جماليته ، لكنها عندما طلبت مني المساعدة على أن تجلس أرضا عرفت أن الحكي سيطول و أن الحلم به شيء من نفس يعقوب... جلست وخوف عيني بدأ يتبدد فما دامت لالة الشريفة كما أناديها رغبت في الحديث معي بالتعيين والإطالة الودية فلا بأس لي اليوم، ما دمت أتسكع كالمغترب في مدينتي .
خاطبتني لا تخف فلن تأكل الطيور من الطبق الذي فوق رأسك ، رفعت يدي بشكل لا شعوري إلى هامة رأسي لأتحسس ما يوجد ، رغم أنني كنت واثقا بأني لا أحمل طبقا على رأسي بل أحمل نذوب الزمان . ولكن تشبيهها راودني تفكيره وخبرت ترديدته ، ولملم جسمي الشعور بأثر خوفه و مآله ، فأنا ليست بالسجين الذي كان يقتسم الغرفة مع سيدنا يوسف ، وإنما أنا سجين مدينة منسية حملت ناسها كرها ،وأرضعتهم حبا ، وقابلوها بالفصال... حقا أنا سجين أحداث تلازمني بالقهر الداخلي ، هنا لم أدع الفرصة تمر وسألتها بأدب المريد لشيخه عن جوهر حلمها .
هي كانت واثقة من نفسها تمام الوثوق بأنها بسطت شباكها وقبضت بقوة على تفكيري و استعمرت خيالي برؤية لا زلت أبحث عن خيوطها الركيزة.
قالت : وهي تشد على كمشة من تربة الأرض، أعرف أنني أثقلت عليك القول ، أعرف أنك طلقت الكلام المباح منذ أن ارتجت حياتك ، أعرف تمام المعرفة ملامحك الكبرى في حلمي . رأيت خيرا وسلاما أنك كنت تحمل وردة تتفتح بين أصابع يديك ، رأيت مدى الرعاية التي كنت توليها للوردة ولا تترك فرصة حتى للنحل بأن يلثمها ...رأيت الوردة لحظة وفي غر غفلة منك تبخر طيبها العطر ...رأيت كفيك إلى السماء مفتوحتين ...رأيت بأن دمعة يومية تسبق عينيك بالبكاء ... في متم كلامها سقط رأسي بين يدي، ولم استطع حمله علوا ، وأصبح بصري دائري الطواف، وعدت لا أفكك رموز كلماتها إلا بشدة عصارة تفكير إضافي مرهق ... سمعت المرأة وقع صوت دقات قلبي ، وبالآم الداخلية التي تكسرني وتخنقني في يقظتي ونومي ، في قعودي ووقوفي...حينها انقطع تيار تداول التفكير عندما أفاقني عنوة جلبة مرور لأطفال المدرسة ،لعب ، لهو ، ضحك ، تدافع ... شعرت أن المكان قد احتلته الطفولة، أحسست بالزمن الماضي يستيقظ قدوما إلى المكان ...تنحيت عن مسار سرب براءة الطفولة العفوية جانبا. فما دام الدرب لن يجمع كل المتناقضات ، لالة الشريفة التي هرمت في زمانها العمري ، وبين جيل مخضرم تائه، وبين نزق طفولة اليوم و فساحة مستقبل لا ندري ما يخفيه عنا ...
عاد الصمت إلى الدرب مرة ثانية ، لحظة، علا جسمي عرق داخلي يتصبب ، الآن، فقدت الارتباط الخارجي ثانية بيني وبين عالمي... فيما كانت عودة حمار طالب معاشو " فارغ التليس" وقعه المتبختر اللامبالي، أرغمني على جعل الحائط ملاذا لجسدي وثقل تفكيره ...
تقايست العيون بيني وبين لآلة الشريفة ،كنت مستغربا أن طرف عيونها لا يرتد، حينها قرأت خلالها حبا لي ،احتراما لمسار حياتي ، إشفاقا عن كل المعاناة القدرية التي أكابدها بالطوع والاستسلام .... أحسست أن معرفتها بمتم مسار حياتي تمتلكه دقيقة بأخرى ... هي لم تمهلني في البقاء على وضعيتي الحائرة ، بل قابلتني بابتسامة خفيفة، وسبابة يدها اليمنى إلى السماء . كل رمز من دلالة حركتها أو قولها خبرته الآن ، ووعيت مقصده ...
لم تكن المرأة لتبقى قاعدة جلوسا، بل أشارت لي بأنها تريد الوقوف مرة ثانية وهي تنثر كمشة التراب الذي بيدها على الأرض ، تريد مني المساعدة ، إنها تتعلق بقشة غريق غريب عن ذاته ومدينته، لا أدر مدى دلالة فعلها النوعي كأثر نوعي علي وعلى تفكيري ، مادامت جلستها لم تتجاوز دقائق تعداد أصابع اليد الواحدة... بيني وبينكم قرأت تأويلا في رمزية فعلها هذا ، لكني لم أعر الأمر سلطة عليا علي وعلى سلوكي ... انتهى حكي الحلم وتهت في دلالة تفسيره وتحليله ،ولحد الآن لم استطع تفكيك رموزه الكبرى البعدية ، لكن والله أعلم ،ما هي إلا أضغاث أحلام ... لم تمهلني كثيرا لالة الشريفة وتترك لي متسعا من التفكير والتمحيص ، بل نادتني باسمي وكنيتي العائلية ، هنا نكسة الإرهاق والغربة طارت ملامحها عاليا واعتدلت وقوفا بعلامات استفهام محيرة بالتوالي ، ومن حيث لا أشعر، صحت بأعلى صوتي " نعم " ....
(يتبع / الجزء 3 " الجولة ")
ذ محسن الأكرمين
الكاتب : | محسن الأكرمين |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2016-06-07 21:36:44 |