تقارير مصورة
مكناس.. أميرة وسط أشجار الزيتون وكروم العنب
جريدة الشرق الأوسط : عبد الكبير الميناوي
ذات حوار، سئل الشاعر العراقي سعدي يوسف عن أحب المدن، التي زارها، إلى قلبه.. فأجاب: «مكناس، إنها توازي باريس بالنسبة لي، هي عاصمة السلطان إسماعيل الذي كان معاصرا لأهم ملوك فرنسا، لويس الرابع عشر. إسماعيل كان ندا حقيقيا للويس حتى إنه طلب يد ابنته ليتزوجها. وأعتبر أن بوابة المنصور، في مكناس، أجمل من كل بوابات باريس القديمة».
يتذكر سعدي يوسف زيارته للمدينة المغربية، فيقول «في الطريق من المحطة إلى الفندق، وكان المساء في أوائله، رأيت الشابات والشبان منطلقين في الشوارع والحدائق، وهو مشهد صرنا نفتقده في كثير من المدن العربية، كما لمحت، للمرة الأولى، أسوار المدينة العتيقة، عاصمة مولاي إسماعيل.. شمس الغروب على الأسوار، والمنارة الراسخة تشق طريقها الدائمة نحو السماء».
يؤرخ سعدي يوسف لزيارته للمدينة المغربية، كمن يرغب في تقاسم المتعة، التي عاشها شخصيا، مع هواة السياحة والسفر، ولذلك نجده، يقول: «بمقدور المرء (كما فعلنا) أن يذهب ماشيا إلى المدينة العتيقة، وأن يرقب الحياة تستيقظ، والتلامذة يمضون إلى المدارس، والعربات تأتي بالنعناع إلى المقاهي. سيكون شاي الصباح مفعما بخير الطبيعة الأولى».
والجميل أنه لو خُيّر شاعرنا بين مكناس وباريس، سيختار المدينة المغربية، مبررا ذلك بقوله «إنها مدينة طليقة الأنفاس، أهم من باريس باعتبار أنها الأقرب لحضارتي، والناس لم تستشر في نفوسهم بعد حمى السياحة، كما هي الحال في مراكش. حتى السائحون يأتون إلى مكناس عابرين، إلى الأطلس أو الصحراء.. يبيتون ليلة أو اثنتين ويغادرون. الرومان كانوا، هنا، أيضا. مدينة رومانية كاملة تقع على مبعدة نحو أربعين كيلومترا عن مكناس: «فوليبليس (وليلي).. صرح روماني كامل وموزاييك عجيب. الموزاييك مكشوف لعناصر الطبيعة، وقد يتآكل مع الزمن إن لم يُحفظ تحت سقف زجاج أو بلاستيك شفاف. في الموزاييك كائنات بحرية وفيل وآلهة. أبوللو وباخوس».
هكذا، يتحول شاعرنا العربي إلى دليل، يعرف بالمدينة المغربية، ويقربها من عشاق السياحة والسفر، فيقول: «لم يتسن لي وقت كاف لمعاينة الكثير مما تضمه عاصمة عريقة هي مكناس. كان عليّ، مثلا، أن أتقرّى بوابة المنصور كما تقرّى البحتري النحت البارز في أنطاكية. وكان علي أن أدخل قبة السفراء، حيث كان مولاي إسماعيل يستقبل المبعوثين الدبلوماسيين. ومن هناك أنحدر إلى سجنه الرهيب (...) وكان علي أن أدقق في ما يفعله الحرفيون من جمال».
وتعتبر مكناس، التي أخذت اسمها من قبائل «مكناسة» الأمازيغية، خلال القرن العاشر، إحدى العواصم التاريخية الأربع للمغرب، إلى جانب مدن فاس ومراكش والرباط. وهي تعرف بلقب العاصمة الإسماعيلية، استحضارا للتاريخ وللسلطان العلوي المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين 1672 و1727، والذي جعل منها عاصمة ملكه، وكرس سنوات حكمه الخمسين ليجعل منها أجمل مدن المغرب والعالم في ذلك الوقت.
ولعل المآثر التاريخية التي توجد بمكناس تبقى خير شاهد على أصالة هذه المدينة وثراء حضارتها، التي تستمد جذورها من أعماق التاريخ المغربي، سواء بأسوارها وأبراجها وبساتينها وقصورها ومساجدها وسقاياتها وساحاتها ومآذنها وزواياها وأزقتها، أو بعادات وتقاليد أهلها.
ومكناس، إلى جانب أهميتها التاريخية، هي منطقة فلاحية تشتهر بأشجار الزيتون، الذي يستخرج منه زيت الزيتون أو يصبر في معلبات، كما تشتهر بحقول العنب، الذي يمتاز، هو الآخر، بجودته، ويتم تصدير النبيذ الذي يستخرج منه إلى الخارج.
وتذكر كتابات المؤرخين أن مكناس، ازدهرت خلال حكم المرابطين، الذين أقاموا بها «القصبة المرابطية» ومسجد «النجارين»، وأحاطوها بسور. وخلال حكم الموحدين، عرفت المدينة ازدهارا عمرانيا أكبر، حيث تم توسيع المسجد الكبير، كما تم تزويد المدينة بالماء، بواسطة نظام متطور لتلبية حاجيات الحمامات والمساجد والسقايات، وظهرت أحياء جديدة، مثل حي «الحمام الجديد» وحي «سيدي أحمد بن خضرة». وخلال الحكم المريني، شهدت المدينة استقرار عدد كبير من الأندلسيين، ممن قدموا إليها بعد سقوط الكثير من حواضر الأندلس. وفي عهد الدولة العلوية، خاصة خلال فترة حكم السلطان المولى إسماعيل، استعادت المدينة مكانتها كعاصمة للمغرب، حيث ستعيش أزهى فترات تاريخها، خاصة على المستوى العمراني.
وتذكر كتب التاريخ أن السلطان المولى إسماعيل أقام حدائق وإسطبلات للخيول ومخازن للحبوب، وصهاريج لتزويد الأحياء بالماء، كما أحاط المدينة بسور تتخلله عدة أبراج عمرانية ضخمة وأبواب تاريخية كـ«باب منصور»، حتى إن طول السور بلغ أكثر من 40 كيلو مترا، وانفتح على أكثر من خمسين بابا، فيما كانت الأسواق منظمة وتعرف حسب نوع الحرفة والصنعة، مثل سوق النجارة وسوق الحدادة، وغيرهما.
ولأن عاصمة ملك عظيم لا يمكنها إلا أن تكون عظيمة، فقد عمل السلطان العلوي على جلب أمهر العمال والحرفيين والمعماريين من مختلف مناطق المغرب، وكذا من الأندلس، ولذلك تبدو أبواب مكناس التاريخية الشهيرة، برأي البعض، كما لو أنها تنبثق من الأرض، خاصة «باب منصور»، الذي يثير دهشة السياح بفخامته وزخرفته الفريدة من نوعها.
ويرجع بعض المؤرخين هندسة «باب منصور» إلى مهندس أوروبي، ولذلك أضيف لقب «العلج» إلى اسم الباب، فصار يعرف بـ«باب منصور العلج».
ولعل أهم ما يعطي لزيارة مكناس نكهة خاصة أن العاصمة الإسماعيلية تقع في جهة «مكناس تافيلالت»، التي تعتبر إحدى أغنى جهات المغرب، ومهد الأسرة العلوية، التي تحكم المغرب منذ أربعة قرون. وكل هذا التنوع الجغرافي والغنى التاريخي يجعل الزائر يستمتع، أولا، بالغنى الحضاري لمدينة مكناس، التي صنفتها اليونسكو، منذ 1996، إرثا إنسانيا عالميا، وذلك قبل التوجه نحو باقي الوجهات السياحية بالجهة.
وتدين مكناس وجهتها بخصوصيتها إلى تأثير الفن والثقافة الأمازيغيين، لكنها تبقى مطبوعة بآثار الحضارة العربية الإسلامية: الزليج والأسقف المزخرفة والثريات بألوانها الناصعة والرخام المزركش والقفاطين والحلي الذهبية والزرابي.
وينظر إلى مكناس على أنها «مدينة وسط قرية» حيث تعد من أغنى مخازن الغلال في البلاد، فضلا عن آلاف الهكتارات من الغابات التي تكسو الجبال، بينما تغطي السهول حقول شاسعة من القمح والمراعي والبساتين.
وكان الكاتب الفرنسي ميشيل جوبير، قال عن مكناس، إنها «أميرة وسط أشجار الزيتون. بدوية ومتحضرة وفنانة متمرسة، وحدهم عشاقها يفهمونها».
وتعيش مكناس، بشكل كبير، على منتوجاتها الزراعية، مثل حب الملوك وتوت الأرض والبرتقال، وهي فواكه ذات مذاق طبيعي وغني، ناهيك عن أشجار الزيتون وحقول العنب، التي تشكل أهم المميزات الفلاحية بالجهة.
وتشكل المزارع السياحية شكل فريدا من السياحة الخضراء، التي صارت تشهد انتشارا كبيرا، من الخيام إلى المزارع، وهي تستقبل سنويا الكثير من محبي المنتوجات الفلاحية التي تحترم النظام البيئي. ومع هذا التنوع في الوجهات السياحية، يصير لزيارة مكناس أكثر من طابع ولون، يتراوح بين الوقوف على المميزات الأثرية والحضارية والدينية بالمدينة، من خلال زيارة مساجد وجوامع ومتاحف ومدارس وقبب وأبواب وفنادق وساحات وأسواق المدينة، قبل الانطلاق نحو الوجهات السياحية الأخرى بالجهة، مثل مدن وليلي ومولاي إدريس زرهون وإفران وآزرو وخنيفرة، مثلا.
وتعتبر مدينة وليلي الأثرية، أو فوليبليس، التي بنيت في القرن الثالث قبل الميلاد، من أهم المواقع الأثرية بالمغرب، كما تعد واحدة من أشهر الحواضر القديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولذلك صنفت ضمن التراث الإنساني العالمي.
وتوجد وليلي بالقرب من مدينة زرهون، إحدى أولى المدن الإسلامية في منطقة شمال أفريقيا، وكان اتخذها مولاي إدريس الأول، مؤسس الدولة الإدريسية بالمغرب، مقرا لحكمه، بعد مبايعته من طرف قبيلة أوروبة الأمازيغية سنة 788م.
وتقع بلدة زرهون، عند جبال الأطلس، على بعد كيلومترات قليلة، شمال شرقي مدينة مكناس، وعلى بعد كيلومترين من منطقة وليلي الأثرية.
وتتداخل في هذه المدينة الصغيرة، الواقعة فوق مرتفع جبلي، ألوان الجدران البيضاء بلون سقوفها الحمراء، فيما يحافظ سكانها على طابع مدينتهم الروحي و«المقدس»، الذي يستلهم خصوصياته من الهوية العربية الإسلامية.
وتعتبر إفران من أقدم المدن المغربية الجبلية، وهي تقع على ارتفاع 1655 مترا فوق سطح البحر، ولعل أول انطباع يقفز إلى ذهن زائرها أن يظن نفسه في بلدة بأحد جبال الألب الأوروبية، وربما لهذا السبب يلقب كثيرون في المغرب إفران، التي تعني «الكهف» بالأمازيغية، بـ«سويسرا المغرب».
وفي الوقت الذي ارتبطت فيه غابات بلدة إفران بتاريخ المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، فقد أصبحت، اليوم، من أفضل الوجهات السياحية في المغرب، خاصة بالنسبة لعشاق الرياضات الشتوية. وإلى وجهات وليلي ومولاي إدريس زرهون وإفران، هناك مدينتا آزرو وخنيفرة، المشهورتان بمناخهما الجبلي الصحي، وصناعتهما التقليدية، وكونهما مركزين للصيد والقنص.
وإلى كل هذه الوجهات السياحية مجتمعة، والتي يمكن زيارتها عند التوجه نحو مدينة مكناس، لا تبعد مدينة فاس، أول عاصمة في تاريخ المغرب، عن العاصمة الإسماعيلية سوى بـ60 كيلومترا.
وعلى مستوى بنية الاستقبال والإيواء، تتوفر مكناس، والمناطق المجاورة، على سلسلة من المؤسسات الفندقية، باختلاف أصنافها، بالجودة والتنوع في الوقت نفسه، وتتوزع بين فنادق من نجمتين وثلاث وأربع نجوم، تضمن تقديم خدمات إيوائية في المستوى، إضافة إلى وجود أشكال أخرى من الإقامات السياحية والمآوي ودور الضيافة والرياضات والمزارع السياحية، كما يمكن، أيضا، استقبال السياح من طرف السياح المحليين، في بعض الوجهات السياحية بالجهة.
ومن الفنادق المعروفة بمدينة مكناس، هناك فنادق «مالطا» و«المنزه» و«الريف» و«ترانز أطلنتيك» و«الزاكي»، وهي كلها فنادق من أربع نجوم.